ينتهي : 23-01-2025

العودة   منتديات شبكة المهندس > القسم الهندسي > الهندسة المدنية

الملاحظات


مشاهدة نتائج الإستطلاع: ما رأيكم
أرجو رأيكم بردكم 0 0%
كيف بنزل رابط الورد بدل ما نزل الكتابة 0 0%
إستطلاع متعدد الإختيارات. المصوتون: 0. أنت لم تصوت في هذا الإستطلاع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-25-2007, 11:54 PM
أخوكم طارق أخوكم طارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2007
المشاركات: 12
معدل تقييم المستوى: 0
أخوكم طارق is on a distinguished road
افتراضي أسئلة وأجوبة للشيخ القرضاوي


تدخل الدولة لتحديد أجور العمال
س: هل يجوز للدولة في الإسلام أن تتدخل بين العمال وأرباب العمل، فتتولى هي تحديد أجور العمال، وما يتعلق بذلك من استحقاقهم للأجازات، أو للمكافآت أو المعاش عند انتهاء الخدمة، أو تحديد ساعات العمل وغير ذلك مما تعارف عليه عصرنا، وأصبح معدودًا من حقوق العمال في العالم كله ؟
جـ: أود أن أنبه هنا على حقيقة شرعية مهمة، قد يغفل عنها كثير من الناس، أو يجهلونها من شريعة الإسلام، وهي: أن وظيفة الدولة في الإسلام ليست مقصورة على حماية الأمن الداخلي، والدفاع أمام الغزو الخارجي، وليست مهمتها - كما عرف في بعض المذاهب الاقتصادية - حماية الذين يملكون من الذين لا يملكون ؛ إنما هي مهمة إيجابية شاملة ومرنة في الوقت ذاته، بحيث تتسع دائرتها لكل التصرفات والإجراءات التي من شأنها أن ترفع الظلم، وتقيم العدل بين الناس وتزيل عنهم الضرر والضرار، وأسباب النزاع والصراع، ليحل محله التعاون والإخاء . ودليلنا على ذلك:
1- أن مسئولية الدولة - التي يمثلها الإمام في الإسلام - مسئولية مطلقة غير مقيدة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته . . ." الحديث.
وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يقول: " لو هلك جدي بشط الفرات، لرأيتني مسئولاً عنه أمام الله يوم القيامة " . فهذا شعور بالمسئولية عن الحيوان فكيف بالإنسان ؟
- أن إقامة العدل في حياة الناس هدف من أهداف الإسلام الكبرى، به قامت السماوات والأرض، وبه بعث الله الرسل، وأنزل الكتب: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). (سورة الحديد: 25).
والقسط هو العدل الذي به يتحقق التعادل أو التوازن بين الأشياء دون ميل أو جور، أو طغيان من جانب على جانب، ولعل في ذلك الميزان هنا وفي آيات أخرى ما يشير إلى ضرورة التوازن في الحياة الإنسانية، ولهذا عظم الله الميزان فقرنه بالكتاب في آيتين، وقرنه برفع السماء في سورة الرحمن حين قال: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان). (سورة الرحمن: 7-9).
ولا غرو أن يبارك الإسلام إقامة توازن عادل بين أرباب العمل والعاملين، وبين الملاك والمستأجرين، وبين المنتجين والمستهلكين، وبين البائعين والمشترين، وذلك بمنع طغيان بعضهم على بعض، وإزالته إن وقع.
وقد أمر الله تعالى أولى الأمر بواجبين أساسيين: أداء الأمانات والحكم بالعدل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). (سورة النساء: 58).
فكل ما يقتضيه إقامة العدل ورفع الظلم من تشريعات وإجراءات، فالشريعة ترحب به.
3- أن الشريعة الإسلامية تحرص على منع الضرر والضرار قبل وقوعهما، وإزالتهما بعد الوقوع . وقد جاء في الحديث الشريف: " لا ضرر ولا ضرار " وأصبح هذا من القواعد الكلية المقطوع بها في الفقه الإسلامي، وفي القرآن الكريم آيات شتى تؤكد هذا المعنى.
وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة فروعًا شتى منها: أن الضرر يزال، وأن الضرر لا يزال بالضرر، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، والأدنى يتحمل لدفع الأعلى . . . إلخ.
فكل قانون أو تصرف يمنع إضرار الناس بعضهم لبعض، فإن الشريعة تتسع له، وتعتبره مبنيًا على أصولها وقواعدها، ولهذا لم يعترض أحد من علماء الشرع على قانون كقانون المرور الذي ينظم السير، ويضع بعض القيود على أصحاب السيارات وأمثالهم، لمصلحتهم ومصلحة المجموع، وإيقاع الجزاء على من يخالف ذلك.
وإذا كنا حريصين على منع تصادم السيارات حرصًا على سلامة الأفراد، فأولى أن نحرص على منع تصادم فئات المجتمع بعضها ببعض، حرصًا على سلامة الجماعة كلها.
4-أن السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي - باب واسع أمام الدولة المسلمة، تستطيع أن تلج منه لتحقيق ما تراه من إصلاحات مناسبة، أو سن ما تراه من قوانين صالحة، أو اتخاذ ما تراه من إجراءات وقائية أو علاجية لظاهرة معينة، مادامت لا تعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة ثابتة، فكل ما يرى ولي الأمر فعله أقرب إلى الصلاح للرعية، وأبعد عن الفساد، فله أن يفعله، بل قد يجب عليه، وإن لم يجئ بذلك نص خاص، ولهذا قام الصحابة والخلفاء الراشدين بأعمال عديدة رأوا فيها خيرًا ومصلحة، ولم يفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبلهم، ولا أذن لهم بفعلها بنص جزئي.
وهنا يحسن نقل الحوار الذي سجله المحقق ابن القيم، وقد جرى بين العلامة ابن عقيل الحنبلي وبعض الشافعية، ليتبين سعة آفاق السياسة الشرعية التي أشرنا إليها. (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص 13، 14).
وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم . ولا يخلو من القول به إمام . فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك "إلا ما وافق الشرع" أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح . وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة . فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن . ولو لم يكن إلا تحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف، فإنه كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق على رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد، فقال :
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا.
ونفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصر بن حجاج . ا هـ.
قال ابن القيم: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب . فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد . وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها . وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا: إنها حق مطابق للواقع، ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع . ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم . والذي أوجب لهم دلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر . فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلاً وفسادًا عريضًا . فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله.
وكلا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به ورسوله، وأنزل به كتابه . فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات . فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه.
" فلا يقال: إن السياسة العاطلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه . ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات ".
ومن هنا نقول: إن الشريعة التي سبقت مذاهب العالم وأنظمته بوجوب إنصاف العامل وإيفائه حقه بمثل قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " (رواه ابن ماجة عن ابن عمر وعبد الرازق عن أبي هريرة والطبراني عن جابر والحكيم الترمذي عن أنس وطرقه ضعيفة ولكن يقوي بعضها بعضًا ولذا ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير) . . وقوله في الثلاثة الذين يخاصمهم الله يوم القيامة: " ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه، ولم يعطه أجره ". (رواه البخاري عن أبي هريرة).
هذه الشريعة لا يضيق صدرها بسن تشريعات تضمن للعمال أجورًا عادلة، وتقيم التعامل بينهم وبين أصحاب العمل على أساس مكين، حتى لا يبغي قوي على ضعيف، ولا تستغل فئة لصالح فئة أخرى، ولا تبقي هناك ثغرة مفتوحة يتسلل منها أصحاب المذاهب الهدامة للتأثير على العمال، ومحاولة كسبهم إلى صفهم، وإيهامهم أنهم وحدهم المدافعون عن حقوقهم، الحريصون على مصالحهم.
وهذا الذي نقوله اليوم قد قرره المحققون من فقهائنا منذ قرون، فأجازوا لولي الأمر عند الحاجة أن يتدخل بين العمال ومن يستخدمهم في عدة صور، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن " الحسبة " وبين الهدف من هذا التدخل، وهو منع الظلم من فرد لآخر، أو من فريق لغيره، وإلزام الجميع بالعدل الذي أمر الله به . من ذلك: أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة . كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك، فلولي الأمر أن يلزمهم ذلك بأجره مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
ويعود لذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد قليل فيقول: " والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد، صارت فرض عين عليه . فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، ويجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم، بأن يعطوهم دون حقهم.
ويعقب على ذلك ابن تيمية فيقول: " وهذا من التسعير الواجب فهذا تسعير في الأعمال ".
وأجره المثل، أو عوض المثل، الذي ذكره فقهاؤنا يقصد به الأجر العادل الذي يستحقه مثله في مقابل عمله، مع مراعاة كل الظروف والعوامل التي لها علاقة بتحديد قيمة العمل، وتعيين مقدار الأجر المناسب، دون ظلم للعامل، ولا لمن يستعمله.
بل نقول أكثر من هذا: إن فقهاء الإسلام منذ عهد التابعين أجازوا تدخل أولي الأمر لتسعير السلع والأشياء عند الحاجة، مع ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من امتناعه عن التسعير في زمنه، وعدم استجابته عندما طلبوا منه ذلك عند غلاء الأسعار.
فقد روى أنس: أن السعر غلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقي الله، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ". (رواه أبو داود والترمذي وصححه).
والحديث يدل على أن الأصل هو حرية السوق، وتركها للقوانين الطبيعية دون تدخل مفتعل، ولكن إذا تدخلت في السوق عوامل غير طبيعية، من جهة المتلاعبين أو المستغلين لحاجات الناس، وكانت مصلحة جمهور الناس تقتضي التدخل من السلطة الشرعية بالتسعير أو التحديد أو الإلزام، فإن التدخل حينئذ يكون من شرع الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما التسعير، فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم - بغير حق - على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام . وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب.
فأما القسم الأول، فمثل ما روى أنس . . وذكر الحديث السابق.
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق (إشارة إلى قانون العرض والطلب) فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير إكراه بغير حق.
وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها - مع ضرورة الناس إليها - إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامه بقيمة المثل . والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به.
ثم يعود الشيخ ابن تيمية للموضوع بعد أن ذكر ما مر عن التسعير في الأعمال فيقول:
" وأما التسعير في الأموال . فإذا احتاج الناس إلى **** للجهاد والآلات، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن . . . ".
قال: " وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينًا وخبزًا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين . ولهذا جاء في الحديث: " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " . وكذلك لم يكن في المدينة حائك (أي نساج) بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها ويلبسونها.
ويقول شيخ الإسلام:
ومن احتج على منع التسعير مطلقًا، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله هو المسعر . . . إلخ الحديث " . قيل له: هذه قضية معينة، وليست لفظًا عامًا، وليس فيها أن أحدًا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه . ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبة - كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهذا لا يسعر عليهم.
وفي ختام الحديث عن التسعير وما يتعلق به يقول:
" وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل ".
فالمحور الذي تدور حوله الأحكام المتعلقة بالتسعير أو عدمه، هو تحقيق المصلحة للناس، ودفع المفاسد عنهم.
وإذا كان هذا هو الرأي المعتبر في مشروعية تسعير السلع، مع ما ورد فيها من امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير، وإشارته إلى أن ذلك مظلمة يحب أن يلقى الله بريئًا من تبعتها، فكيف لا يجوز (تحديد الأجور) أو (تسعير الأعمال) على حد تعبير ابن تيمية، مع الحاجة إليه، وتعلق المصلحة به، ومع عدم ورود نص يمنع ذلك ؟ والأصل في الأشياء الإباحة، كما أن الأصل في كل ما جاءت به الشريعة هو إقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد.
والخلاصة:
أن الشريعة ترحب بتدخل الدولة المسلمة لتحديد أجور العمال، إذا اقتضت ذلك الحاجة والمصلحة، وإقامة العدل ورفع الظلم، ومنع أسباب النزاع والصراع، والضرر والضرار، بشرط أن تعتمد في ذلك على أهل الخبرة والديانة الذين يستطيعون تقدير الأجور تقديرًا عادلاً، دون حيف على العمال أو أصحاب الأعمال، أو محاباة لأحد الفريقين، كما يدخل في ذلك جواز تدخل الدولة لتحديد ساعات العمل والأجازات الأسبوعية والسنوية والمرضية ونحوها.
ومثل ذلك ما يتعلق بالمكافآت والمعاشات، مما تقتضيه أوضاع العصر، وتعقد الحياة فيه، وحاجة الناس فيه إلى قواعد مضبوطة للتعامل، حيث لم تعد ضمائر الناس - كما كانت من قبل - من الحيوية والنقاء، بحيث تكفي لأداء الأمانات، ورعاية الحقوق، دون تدخل السلطة، وهذا ما جعل فقهاءنا يقرون أن الفتوى تتغير بتغير الأزمان والأمكنة، والأحوال والعوائد، فهذا كله وأمثاله داخل في السياسة الشرعية الرحبة المجال، الواسعة الأبواب كما ذكرنا من قبل، وبالله التوفيق.


حق الحكومة المسلمة في تحديد إيجارات المسكن إذا اقتضته المصلحة
س: أصدرت الحكومة في الآونة الأخيرة قانونًا بشأن إيجار المساكن، حددت فيه العلاقة بين المؤجر والمستأجر، ولم تجز الزيادة في الأجرة إلا بنسبة معينة في مدة معينة، كما لم تجز للمالك إخراج المستأجر إلا في حدود وبشروط خاصة.
فهل تجيز الشريعة الغراء للحكومة المسلمة أن تصدر مثل هذا القانون ؟ وهل يجب على الشعب التقيد به شرعًا ؟ أم يجوز لبعض الناس الخروج على هذا القانون، وعدم التقيد به بدعوى أنهم أحرار التصرف في أملاكهم ؟ مع أن هؤلاء الناس في ظاهرهم متدينون، ويصلون ويصومون، ويحجون ويعتمرون.
نرجوا التكرم ببيان رأي الشرع في مثل الموقف، حتى نعرف ويعرفوا الحلال من الحرام . . وشكرًا.
السائل: م . ع.
جـ: هذا السؤال من *** السؤال السابق عن حق الدولة في التدخل لتحديد أجور العمال، وتنظيم العلاقة بينهم وبين أرباب العمل، إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة . وقد ذكرنا فيه من الأدلة الشرعية، والاعتبارات المرعية ومن نقول المحققين من العلماء ما ينبغي عن إعادته هنا . فليرجع إليه . فالقضية واحدة، وهي: تدخل الدول المسلمة للحد من بعض الحريات الفردية، تحقيقًا للمصالح، ودرءًا للمفاسد، وإقامة للعدل، ومنعًا للظلم، وتفاديًا للضرر والضرار.
ولا ينبغي أن يظن بالشريعة الإسلامية أنها تقف مكتوفة اليدين أمام الأوضاع التي تتغير في حياة الناس بسرعة البرق، وتدع القوي يتحكم في الضعيف، ويفرض عليه ما يريد، مستغلاً ضعفه وحاجته، دون أن يكون لها موقف إيجابي.
إن من خصائص الشريعة الغراء أن في أصولها وقواعدها من المرونة والسعة ومراعاة الواقع، ما يجعلها كفيلة بمواجهة كل جديد من أطوار الحياة ومشكلاتها، بالعلاج الناجح، والحل الحاسم العادل.
وقد أدرك فقهاؤنا - رحمهم الله - حتى في العصور المتأخرة هذه المزية الظاهرة للشريعة، وهي (المرونة) و(الواقعية) فلم يجمدوا كالصخر أمام تطورات الحياة، وتغير أخلاق الناس، الذي يعبرون عنه بفساد الزمان، ولهذا وسعوا علي القضاة والحكام في أمور السياسة الشرعية وتدبير أمر الرعية، بما يحقق العدل، ويرفع الظلم، ويقطع دابر الفساد.
يقول العلامة الحنفي علاء الدين الطرابلسي في كتابه (معين الحكام):
" قال القرافي: واعلم أن التوسعة على الحكام، في الأحكام السياسة، ليس مخالفًا للشرع، بل تشهد له الأدلة المتقدمة، وتشهد له أيضًا القواعد الشرعية من وجوه:
أحدهما: أن الفساد قد كثر وانتشر، بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام، بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار " وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج.
وثانيها: أن المصلحة المرسلة قال بها جمع من العلماء، وهي المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها . ويؤكد العمل بالمصالح المرسلة، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، عملوا أمورًا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو: كتابة المصحف، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، ولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير . . وكذلك ترك الخلافة شورى بين ستة . . وتدوين الدواوين وعمل السكة (النقود) للمسلمين . . واتخاذ السجن، وغير ذلك، مما فعله عمر رضي الله عنه، وهدم الأوقاف التي بإزاء المسجد - يعني مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وحرق المصاحف، وجمعهم على مصحف واحد، وتجديد أذان في الجمعة بالسوق، مما فعله عثمان رضي الله عنه، وغير ذلك كثير جدًا، فعل لمطلق المصلحة.
وثالثها: أن الشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية، لتوهم العداوة، فاشترط العدد والحرية، ووسع في كثير من العقود للضرورة، كالعرايا والمساقاة، والقراض، وغيرها من العقود المستثناة، وضيق في الشهادة في الزنى، فلم يقبل فيه إلا أربعة يشهدون بالزنى كالمرود في المكحلة، وقبل في القتل اثنين، والدماء أعظم، لكن المقصود الستر، ولم يحوج الزوج الملاعن إلى بينة غير أيمانه، ولم يوجه عليه حد القذف، بخلاف سائر القذفة، لشدة الحاجة في الذب عن الأنساب وصون العيال والفرار عن أسباب الارتياب، وهذه المباينات والاختلافات كثيرة في الشرع، لاختلاف الأحوال في الأزمان، فتكون المناسبة الواقعة في هذه (القوانين السياسية) مما شهدت لها القواعد بالاعتبار، فلا تكون من المصالح المرسلة، بل أعلى رتبة، فتلحق بالقواعد الأصلية.
ورابعها: أن كل حكم في هذه القوانين، ورد دليل يخصه، أو أصل يقاس عليه، كما تقدم في أدلة الباب . وقد تقدم ذكرنا لكلام بعض العلماء - وهو المذهب - على أنه قال: إن لم نجد في جهة إلا غير العدول . أقمنا أصلحهم، وأقلهم فجورًا للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم، لئلا تضيع المصالح، وتتعطل الحقوق والأحكام، وما أظن أنه يخالفه أحد في هذا، فإن التكليف مشروط بالإمكان، وإذا جاز نصب الشهود فسقة، لأجل عموم الفساد، جاز التوسع في الأحكام السياسية، لأجل كثرة فساد الزمان وأهله، وقد قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس أقضية، بقدر ما أحدثوا من الفجور . قال القرافي: ولا نشك أن قضاة زماننا وشهودهم وولاتهم وأمناءهم لو كانوا في العصر الأول، ما ولوا ولا حرج عليهم، وولاية هؤلاء في مثل ذلك العصر فسوق، فإن خيار زماننا هم أراذل ذلك الزمان، وولاية الأراذل فسوق فقد حسن ما كان قبيحًا، واتسع ما كان ضيقًا، واختلف الأحكام باختلاف الأزمان.
وخامسها: أنه يعضد ذلك من القواعد الشرعية، أن الشرع وسع للمرضع في النجاسة اللاحقة لها من الصغير مما لم تشاهده، كثوب الإرضاع، ووسع في زمان المطر، في طين المطر، كما ذكره محمد في طين بخاري، على ما فيه من القذر والنجاسة، ووسع لأصحاب - القروح في كثير من نجاستها، ووسع لصاحب البواسير في بللها، وجوز الشارع ترك أركان الصلاة وشروطها إذا ضاق الحال، كصلاة الخوف ونحوها، وذلك كثير في الشرع، ولذلك قال الشافعي: " ما ضاق شيء إلا اتسع "، يشير إلى هذا الموطن، فكذلك إذا ضاق علينا الحال، في درء المفاسد، اتسع كما اتسع في تلك المواطن.
ومن هنا نقول: إن من واجبات الحكومة المسلمة أن تنظم علاقات الناس على أسس سليمة، فتضع من الأنظمة والقوانين ما يحقق العدل ويرفع الظلم، ويشيع الطمأنينة والاستقرار بين الناس، ويزيل أسباب النزاع والخصام من بينهم، وفقًا لما أوجبه الشرع من إقامة المصالح، ودرء المفاسد عن الخلق . ولا يجوز أن تنحاز الحكومة لفئة من المجتمع ضد أخرى، بل يكون عدلها للجميع.
هذه وظيفة أولي الأمر . . وهذا هو واجبهم الذي تحتمه السياسة الشرعية، بمفهومها الواسع الذي تحدثنا عنه في فتوانا عن جواز " تحديد أجور العمال " إذا اقتضته المصلحة، وإقامة العدل بين الناس من أعظم الغايات التي أرسل الله الرسل لتحقيقها، وأنزل الله بها الكتب، يقول تعالى في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط). (الحديد آية: 25).
لقد أمر الله عز وجل بالعدل، ومن أسمائه الحسنى " الحكم العدل " فكل ما يحقق العدل بين الناس، وكل ما يزرع المحبة والطمأنينة والثقة بينهم، أمر يحبه الله ويأمر به دينه وشريعته (قل أمر ربي بالقسط) (الأعراف: 29)، ومن واجب الدولة المسلمة أن تحرص عليه وتتحرى إقامته في البلاد.
ومن واجب الرعية أن يطيعوا هذا الأمر، ويسمعوا له، فالدين يأمرهم بهذا، فقد خاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (النساء: 59).
وطاعة أولي الأمر إنما تكون في المعروف، وفيما ليس معصية، ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والقانون الصادر من أجل مصلحة المجتمع، ومن أجل إقامة الحق والعدل فيه فهذا يجب طاعته دينًا، ومن خالفه، شأنه شأن من خالف أي أمر من أوامر الدين.
ومن هنا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
فانظر هنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فيما أحب وكره ".
فإن بعض الناس يسمع ويطيع إذا كان الأمر في مصلحته . أما إذا تعارض مع مصلحته وأهوائه الشخصية، فإنه يعصي أو يتحايل على القانون ليفلت من قيوده المنصوص عليها . . وكأنه يريد من القوانين أن توافق هواه دائمًا وألا تتعارض مع مصلحته الخاصة في بند من بنودها.
إن مصالح الناس ورغباتهم كثيرًا ما تتعارض وتتضارب، ومهمة ولي الأمر هي المحاولة للتوفيق بين المصالح، والموازنة بين المنافع والمضار، فالقانون الذي يحقق منفعة لأكبر عدد من الناس هو الذي يتفق مع العدل، ولذلك كان سيدنا عمر وغيره من الصحابة يفعلون هذا بحكم السياسة الشرعية، ويبتغون دائمًا تحقيق المصلحة لأكبر عدد من الناس . فمثلاً رأي عمر أن الذبائح أقل من حاجة المستهلكين، فحرم على الجزارين أن يذبحوا في يومين متتاليين، لتتوافر الذبائح في بقية الأيام . . فولي الأمر من حقه أن يقيد بعض المباحات إذا كان في ذلك مصلحة راجحة . . ومن هنا كان عمر يذهب بنفسه إلى مجزرة الزبير بن العوام ويراقب ليتأكد أن أحدًا لم يذبح في اليوم الذي يحظر فيه الذبح . . ذلك من أجل أن تتوافر اللحوم في الأيام الأخرى.
وهكذا نجد أن القوانين التي تُسن لتحقيق مصالح الناس، ولتحفظ بينهم الأمن والاستقرار يجب طاعتها والعمل بمقتضاها . أما أن يأتي بعض الناس ويقول: أنا حر في ملكي - أتصرف فيه كما أشاء، ولو أدي ذلك إلى مخالفة القانون . . هذا بطبيعة الحال خطأ فالإنسان ليس حر التصرف بحيث يفعل في ماله ما يشاء . . ولعل هذه هي النظرية التي قالها قوم " شعيب " حينما قال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم . ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (هود: 85). فقالوا له حينئذ: (يا شعيب، أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء). (هود: 87).
وظاهر أن منطقهم منطق أعوج . . وهذه هي الرأسمالية الباغية، التي تعطى لصاحب المال الحرية المطلقة للتصرف في ماله كما يشاء . . أما الإسلام فغير هذا تمامًا . . فالحقيقة أن الإنسان مستخلف في ماله، وهذا أساس فكرة الاستخلاف في الاقتصاد الإسلامي، ومفادها أن الإنسان ليس مالكًا حقيقيًا للمال، فالمال مال الله، وإنما هو مستخلف فيه، يعني أنه وكيل فيه - استخلفه الله ووكله على هذا المال، ليرعاه، وينفق منه في الوجوه الشرعية، ولهذا يقول تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد: 7). فالمال حقيقة مال الله، كما قال تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33). (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم). (آل عمران: 180).
من الذي خلق المال ؟ من خلق مادته ؟ وهيأه للانتفاع به ؟ إنه الله.
إذا زرعت زرعا، فمن الذي أنبته ؟ (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) (الواقعة: 64) . من الذي فجر الماء من الأرض ينبوعًا، أو أنزله من السماء أمطارًا ؟
من الذي جعل النبته في الأرض تأخذ مقادير معينة محددة من الغذاء والأملاح، فتكون هذه حلوة، وهذه مرة، وهذه مالحة ؟ إنه الله.
كذلك إذا كنت تاجرًا، من الذي سخر الرياح تجري في الأرض، والفلك تجري في البحار، ومن الذي سخر الناس ليشتروا منك ويبيعوا لك ؟ إنه الله.
وهكذا . . فالمال، والأسباب التي يأتي عن طريقها المال، كلها من الله وبتسخير منه سبحانه . ..
إن المال - باعتبار الأصل - هو مال الله . وادعاء الإنسان بأن المال ماله هو ادعاء باطل.
وهو - باعتبار آخر - مال الجماعة أيضًا . فقد أسهمت الجماعة كلها ولا شك في تكوينه وتنميته، بجهود مباشرة وغير مباشرة، منهم من ساهم من قريب، ومنهم من ساهم من بعيد . والمرء وحده لا يستطيع أن يزرع ولا أن يصنع، ولا أن يتاجر، فلولا المجتمع ما كان الفرد . ومن هنا نفهم سر إضافة الأموال إلى جماعة المخاطبين في قوله تعالى في سورة النساء: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، وارزقوهم فيها واكسوهم). (النساء: 5).
أي إذا كان هناك سفيه، يتصرف في المال بغير وعي وبغير عقل، يبعثره ذات اليمين وذات الشمال، فهذا يجب أن يحجر عليه، فلا يعطي ماله . ولكن حينما يعبر القرآن عن هذا المعنى قال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم . .) مع أن العقود الرسمية تنص على أنها " أموالهم " ولكن المعنى المراد: أنها أموال الجماعة المسلمة، لأن السفيه إذا بدد ماله فإنما يبدد مال الجماعة كلها، والضرر لا يعود على الشخص وحده بل يشمل المجموعة من حوله ومن ورائه.
ومن هنا كانت عناية الإسلام بالأموال، فالذي يقول: إن هذا مالي وأنا حر فيه، ولا أحد يقيدني . . مخطئ فيما يقول . . وهو يرتكب حرامًا إذا خالف هذا القانون ؟ لأنه صاحب قوة أو صاحب نفوذ . . بل عليه أن يطيع القانون ويمتثل لأمر الدولة في هذا الشأن، لأنه من الطاعة المعروفة.
أذكر هنا حادثة حكيت لي وهي أن أحد الأثرياء قيل له: إن هذا القانون صدر حماية للضعفاء، ورعاية للفقراء، فغضب وقال: ما لنا وما للفقراء ؟ إذا كان الله لا يغنيهم، فهل يطلب منا أن نغنيهم ؟ . وهذا منطق عجيب . . إنه منطق الكفار والمشركين الذي حكاه القرآن عنهم في سورة " يس " يقول الله تعالى: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟) . . إنه نفس الكلام ونفس المنطق . . ولهذا يعقب الله على قولهم فيقول: (إن أنتم إلا في ضلال مبين) . أي من قال هذا فهو في ضلال، لأنه عمي عن السنن الكونية التي وضع الله عليها هذا الكون، إن الله يرزق الناس بعضهم من بعض، وهناك شبكة من الأسباب والمسببات قام عليها هذا الوجود . فكون بعض الناس يعتقد أنه حر في ماله يفعل كيف يشاء به . . هذا خطأ شنيع، وبخاصة إذا كان هؤلاء - كما ورد في السؤال - يصومون ويصلون ويحجون ويعتمرون ..
هذا - للأسف - هو الفهم المغلوط للدين، وهو أن الإنسان يأخذ من الدين ما يوافق هواه، ويرفض ما لا يوافق هواه، وهو الذي يحج ويعتمر متطوعًا: ألا ينفق الكثير من ماله لأداء الحج والعمرة ؟ فلماذا يبخل بعد ذلك في مساعدة أخيه المسلم، ويرفض تنفيذ قانون دولته، إذا كان هذا القانون يحمي الفقير، فيلجأ المالك إلى طرد المستأجر من بيته، لأنه أقوى منه مالاً ونفوذًا ؟ . . هذا لا يجوز، وهذا يستدعي الشك في تدين هؤلاء . . إن مثل هذا التدين غالبًا ما يكون مغشوشًا مدخولاً، ويدخله الرياء والعياذ بالله.
إن الواحد من هؤلاء تراه يصلي ويصوم ويحج ويعتمر، ثم لا يتورع عن ارتكاب الحرام، وعند العدل بين الخلق تجده يميل ميزانه ويمشي مع هواه، ويتبع خطوات الشيطان . . ألا يكون مثل هذا فتنة للآخرين، ومبررًا للتهجم على الدين وأهله ؟.
إن الدين يأمر بحسن المعاملة، حتى اشتهر بين المسلمين أن " الدين المعاملة " وهذا يقتضيك ألا تظلم أحدًا بل أن تحاول الإحسان إلى غيرك من الناس.
إن الذين يخالفون القانون الذي يحفظ الحقوق ويقر العدل ويقيم ميزانه هؤلاء يعتبرون شرعًا مخالفين للدين نفسه، لأن الدين يأمر بطاعة مثل هذه القوانين التنظيمية ما دامت بالمعروف وفي غير معصية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


الإسلام والتجارة
س: هل صحيح أن الدين يكره التجارة ؟ وهل هناك حديث نبوي يدل أو ينص على أن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا ؟ وهل هذا ينطبق على التجار الذين يتجرون بالأشياء المباحة ويربحون ربحًا حلالاً ؟
أرجو توضيح ذلك بالتفصيل، وشكرًا.
س . حـ.
جـ: هذا السؤال يمس قضية مهمة، وبخاصة في هذه الأيام.
إن الإسلام لا يكره التجارة، فإنها وسيلة من وسائل الكسب المشروع، حتى أن القرآن يطلق عليها وصفًا جميلاً، يقول: (. . يبتغون من فضل الله) (المزمل: 20). فسمى طلب الرزق عن طريق التجارة ابتغاء من فضل الله . ويقول أيضًا: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) (البقرة: 198). وهذه الآية نزلت في موسم الحج، أي حتى في أثناء الحج يجوز للإنسان أن يبيع ويشتري، وقد كان المسلمون يتحرجون من ذلك قبل نزول الآية، ولكن هذه الآية رفعت عنهم الحرج، وأباحت لهم التجارة في هذا الموسم العظيم.
ويقول تعالى في شأن صلاة الجمعة: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (الجمعة: 10). يقول سيدنا عمر: " ليس هناك مكان أحب أن يأتيني الموت فيه بعد الجهاد في سبيل الله، إلا أن أكون في سوق أبيع وأشتري من أجل عيالي " وأخذ هذا من قول الله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض بيتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله). (المزمل: 20).
فالتجارة ليست منكرة ولا مكروهة في الدين.
لقد امتن الله على قريش أن كانت لهم تجارة في الشتاء والصيف يرتحلون من أجلها إلى الشام واليمن . يقول تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: 1-4). وقال تعالى: (أولم نمكن لهم حرمًا آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء). (القصص: 57).
وقد كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تجار معروفون، مثل عبد الرحمن بن عوف، الذي هاجر من مكة إلى المدينة ولم يكن معه شيء من مال أو متاع، فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: يا أخي إني من أكثر الناس أموالاً فتعال أشاطرك مالي، وعندي زوجتان أنظر إلى أوقعهما في قلبك أطلقها لك، فإذا استوفت عدتها تزوجتها، وعندي داران، تسكن إحداهما وأنا أسكن الأخرى، هذا الإيثار العظيم من سعد بن الربيع قابله عفاف وترفع من عبد الرحمن ابن عوف قال له: يا أخي بارك الله لك في مالك وفي أهلك وفي دارك، إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق . فدلوه على السوق فباع واشترى وعمل بالتجارة حتى غلب اليهود فيها وجمع ثروة ضخمة، حتى أنه حينما مات صولحت إحدى نسائه - وكن أربع نسوة - على ربع الثمن فكانت نصيبها ثمانين ألف دينار . . . أي أن هذا المبلغ كان يساوي 32/1 من التركة، ولا ننس القدرة الشرائية للدينار في ذلك الوقت . . وكل هذا من التجارة . . ولعلنا نعلم أن عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة . . فلو كان في التجارة حرج وإثم ما كان عبد الرحمن بن عوف من المبشرين فالتجارة إذن لا شيء فيها.
إلا أن التجارة ينبغي أن يكون الإنسان فيها على حذر، لأن فيها أشياء إذا قارفها ولم يتجنبها يمكن أن تجره إلى سخط الله وإلى نار الجحيم . . والعياذ بالله.
ولهذا جاء في الحديث: " إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبر وصدق " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح) .فالبر والصدق والتقي منجاة للتاجر من النار يوم القيامة . وقد جاء في حديث آخر: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة . وذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم: " المنفق سلعته بالحلف الكاذب " (رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي ذر) . وقد جاء في حديث آخر عن التجار: " إنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون " (رواه أحمد بإسناد جيد والحاكم، واللفظ له، قال: صحيح الإسناد من حديث عبد الرحمن بن شبل) . وجاء في حديث آخر أنه: " جعل الله بضاعته يبيع بيمينه، ويشتري بيمينه " (رواه الطبراني من حديث سلمان قال المنذري: ورواته يحتج بهم في الصحيح) . فهذا الذي يتاجر باسم الله، ولا يتورع أن يجعله بضاعة يحلف به كاذبًا ويغلظ الإيمان في كل بيع وفي كل شراء . . . يرتكب إثمًا عظيمًا، ولا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا ينال شيئًا من رحمته تعالى.
إن اسم الله ينبغي أن يجل ويقدس ولا يبتذل (ولا تجعلوا الله عرضه لأيمانكم) (البقرة: 224) . فما بالك إذا استعمله التاجر في الحلف الكاذب ؟ وقصده من ذلك ترويج بضاعته ولو بالغش والخداع والباطل . ..
هذه آفة التجارة . أن لا يبالي التاجر إلا بالكسب حلالاً كان أم حرامًا . . فإن كان كذلك اندرج تحت الحديث الذي ذكرناه آنفًا، فكان من الفجار يوم القيامة.
أما التاجر الذي يستحق مرضاة الله، وينجو من الآفات التي يقع فيها معظم التجار، فهو التاجر الذي تتوفر فيه هذه الشروط.
أولا: أن يتاجر في المباح، ولا يتاجر فيما يحرم شرعًا.
فالأشياء التي حرمها الإسلام، كالخمر والخنزير، لا يصح للتاجر المسلم أن يتاجر بشيء من ذلك . . حتى ولو باعها لغير مسلم، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - لعن في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها وآكل ثمنها . . فكل من شارك فيها بجهد ما فهو ملعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه قربة مملوءة خمرًا ليهديها إلى النبي، فقال له عليه الصلاة والسلام: " إن الله قد حرم الخمر " قال له: إذن أبيعها. قال: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . قال: إذن أكارم بها اليهود - أي يهديها لهم مجاملة - فقال: إن الذي حرم بيعها وشربها حرم أن تكرم بها اليهود " . قال: فماذا أصنع بها ؟ قال: " اذهب فشنها على البطحاء " (رواه الحميدي في مسنده) . أي صبها وأهرق ما فيها على الطريق.
ومن هنا نعلم بأن صناعة الخمر، واستيرادها، وتصديرها، والتجارة فيها، وكل ما يتعلق بها فهو حرام، بل أكثر من ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حبس العنب أيام القطاف ليبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة " (رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الحافظ في بلوغ المرام).
فالأمر الأول هو ألا يتاجر المسلم في محرم.
ثانيًا: ألا يغش ولا يخون فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من غش فليس منا " (رواه مسلم وغيره . ومعظم رواياته: من غشنا، وقد روى هذا المتن عدد: منهم أبو هريرة، وابن عباس وابن مسعود).
ثالثًا: ألا يحتكر، لأن الاحتكار حرام . فالنبي يقول: " لا يحتكر إلا خاطئ ". (رواه مسلم وأبو داود).
وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت . ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). (القصص: 8).
رابعًا: ألا يحلف كاذبًا، بل يتجنب أن يحلف حتى ولو صادقًا بقدر الإمكان، وقد سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمين الكاذبة باليمين الغموس، أي أنها تغمس صاحبها بالإثم في الدنيا وبالنار في الآخرة، ولا ينظر الله إلى صاحبها يوم القيامة وهي تترك الديار بلاقع، وتخرب البيوت - والعياذ بالله.
خامسًا: ألا يغلي الأسعار على المسلمين، كأن تحدد الحكومة السعر، ويزيد التاجر على التسعيرة، أو يستغل حاجة المسلمين إلى السلعة فيرفع ثمنها عليهم، ليربح أرباحًا فاحشة أكثر مما يجوز.
لقد رفعت الحكومة رواتب الموظفين بنسب معينة، لتواجه حالة الغلاء وموجة ارتفاع الأسعار ولكن التجار يستغلون ذلك ويزيدون الأسعار في مقابل تلك الزيادة في الرواتب بلا مبرر ولا سبب لرفع السعر سوى الجشع والرغبة في الإثراء السريع من غير طريقه الصحيح . إن رفع الأسعار على المسلمين بهذه الطريقة يعتبر جريمة، لأنه يسبب ضيق الحياة على الناس، وكثير من الناس دخلهم ضئيل وأحوالهم المعيشية سيئة، ولهذا روى معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مرض موته، حيث قال للناس من حوله: أجلسوني حتى أحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسوه فقال: سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة " فقيل له: أسمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: غير مرة ولا مرتين (رواه أحمد والطبراني والحاكم وكلهم عن زيد بن مرة عن الحسم عن معقل) أي أنه - عليه الصلاة والسلام - كرر ذلك مرارًا لعظم خطر هذا الأمر.
ليقنع التجار بالكسب المعقول، لماذا يكسبون مائة بالمائة ؟ ألا يكفي ربح عشرين بالمائة أو خمسة عشر ؟ لم الجشع ولم الطمع ؟ ولم الربح الفاحش ؟ ألا يكون ذلك على حساب المستهلك المسكين . . اربح قليلاً وبع كثيرًا أفضل . أما أن تحاول أن تجمع الدنيا بين يديك وتظن أن كل ما تجمعه حلال، فهذا خطأ . إن الإسلام جاء بالعدل، فإذا لم يحدد نسبة الربح، فإنه ينبغي مراعاة روح العدل التي جاء بها ودعا إليها . والعدل أمر فطري.
سادسًا: ينبغي أن يحرص التاجر الذي يريد إرضاء ربه على أن يزكي ماله، فيقوم بضاعته كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر أي 5و2% ويدخل في ذلك الأموال السائلة، والسلع التجارية التي عرفت قيمتها، أما الأشياء الثابتة كالمباني والموازين والمكاتب وما إلى ذلك كالثلاجات التي تحفظ فيها بعض السلع، هذه الأشياء لا تدخل في حساب الزكاة . وإنما الذي يدخل فيها النقود والبضائع المتداولة المعدة للبيع - كما قلنا - والتي تسمى " عروض التجارة " وكذلك الديون المرجوة له . أما الديون التي عليه فإنه يقتطعها ويحسبها من المبلغ الذي سوف يزكيه، والباقي يدفع عنه الزكاة بالنسبة التي ذكرتها آنفًا وهي تعادل خمسة وعشرين ريالاً في كل ألف ريال، و25 ألفًا في كل مليون . . . ولا يستكثر بعض الناس من أصحاب الملايين هذا المبلغ المفروض في أموالهم، ولا يتركوا للشيطان مجالاً للوسوسة وللأمر بالفحشاء، وللتخويف من الفقر (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً) (البقرة: 268)، (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين). (سبأ: 39).
سابعًا: يجب على التاجر المسلم ألا تشغله تجارته عن واجباته الدينية، عن ذكر الله عن الصلاة، وعن حقوق الأخوة في الإسلام، وحقوق الجيران، وهذا التذكير يوجه للتجار خاصة، لأن الغالب أن يستغرق التاجر في المادة، ويعيش في دوامة الأرقام والحسابات، ولا يفكر صباحه ومساءه إلا في الكسب والمرابح، وما دخل خزانته وما خرج منها . . وهذه هي الخطورة ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن). هذا التاجر الذي يلتزم الأمانة والصدق في بيعه وفي شرائه، وفي سائر معاملاته، يكون يوم القيامه مع النبيين والصديقين والشهداء . وقد ورد في حديث آخر: " الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا " (رواه الأصبهاني والبيهقي من حديث معاذ بن جبل وأشار المنذري إلى ضعفه) . . هذه صفات التجار الذين يستحقون أن يكونوا في رفقة النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة، وحسن أولئك رفيقا، إنهم لا تلهيهم ولا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، كما وصف الله المؤمنين من عباده بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب. (النور: 37، 38).
فالتاجر الذي لا تلهيه تجارته عن واجباته الدينية، الذي يزكي ماله، والذي يلتزم حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يكون فيه الجشع الذي يدفعه إلى احتكار السلعة أو إغلاء الأسعار على المسلمين، أو الغش أو الحلف كاذبًا، أو التعامل بييع الحرام . . التاجر الذي يلتزم حدود الله ولا يخرج عنها يكون يوم القيامة مع الصديقين والشهداء.
وكل تاجر يستطيع أن يكون كذلك، ولكن للأسف " قليل ما هم " فإن الإنسان قلما يتذكر واجباته الدينية، ويقنع بالحلال، ولا يتطلع إلى الحرام والإثراء على حساب الآخرين.
نسأل الله عز وجل أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه.


فوائد البنوك
س: كنت موظفًا أتقاضي راتبًا متوسطًا، وكنت أوفر منه مبلغًا أودعه البنك وأتقاضى عليه فائدة، فهل يصح لي ذلك أم لا، علمًا بأن المرحوم الشيخ شلتوت أفتى بجواز هذه الفوائد وسألت بعض العلماء، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها . ومما أذكره أني كنت أدفع زكاة مالي، ولكن فائدة البنك كانت تزيد عن المبلغ الذي أخرجه.
وإن كانت الفائدة غير جائزة فماذا أفعل بها ؟
ج: إن الفوائد التي يأخذها المودع في البنك، هي ربًامحرم، فالربا: هي كل زيادة مشروطة على رأس المال . أي ما أخذ بغير تجارة ولا تعب، زيادة على رأس المال فهو ربًا. ولهذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون). (البقرة: 279).
فالتوبة معناها هنا أن يبقى للإنسان رأس ماله، وما زاد على ذلك فهو ربًا. والفوائد الزائدة على رأس المال، جاءت بغير مشاركة ولا مخاطرة ولا مضاربة ولا شيء من المتاجرة ..فهذا هو الربا المحرم . وشيخنا الشيخ شلتوت لم يبح الفوائد الربوية فيما أعلم، وإنما قال: إذا وجدت ضرورة - سواء كانت ضرورة فردية أم ضرورة اجتماعية - يمكن عندها أن تباح الفوائد، وتوسع في معنى الضرورة أكثر مما ينبغي.
وهذا التوسع لا نوافقه عليه رحمه الله.
وإنما الذي أفتى به الشيخ شلتوت هو صندوق التوفير، وهو شيء آخر غير فوائد البنوك . وهذا أيضًا لم نوافقه عليه.
فالإسلام، لا يبيح للإنسان أن يضع رأس ماله ويأخذ ربحًا محددًا عليه، فإنه إن كان شريكًا حقًا، فيجب أن ينال نصيبه في الربح وفي الخسارة معًا، أيًا كان الربح، وأيًا كانت الخسارة.
فإذا كان الربح قليلاً شارك في القليل، وإذا كان كثيرًا شارك في الكثير، وإذا لم يكن ربح حرم منه، وإذا كانت خسارة تحمل نصيبه منها، وهذا معنى المشاركة في تحمل المسئولية.
أما ضمان الربح المحدد، سواء كان هناك ربح أو لم يكن، بل قد يكون الربح أحيانًا مبالغ طائلة تصل إلى 80% أو 90% وهو لا ينال إلا نسبة مئوية بسيطة لا تجاوز 5% أو 6%، أو قد تكون هناك خسارة فادحة، وهو لا يشارك في تلك الخسارة . . . وهذا غير طريق الإسلام . . وإن أفتى بذلك الشيخ شلتوت رحمه الله وغفر له.
فالأخ الذي يسأل عن فوائد البنوك: هل يأخذها أم لا ؟ أجيبه: بأن فوائد البنوك لا تحل له، ولا يجوز له أخذها . ولا يجزيه أن يزكي عن ماله الذي وضعه في البنك، فإن هذه الفائدة حرام، وليست ملكًا له، ولا للبنك نفسه، في هذه الحالة . . ماذا يصنع بها ؟ ..
أقول: إن الحرام لا يملك، ولهذا يجب التصدق به، كما قال المحققون من العلماء، بعض الورعين قالوا بعدم جواز أخذه ولو للتصدق . . عليه أن يتركه أو يرميه في البحر، ولا يجوز أن يتصدق بخبيث.
ولكن هذا يخالف القواعد الشرعية في النهي عن إضاعة المال وعدم انتفاع أحد به . لابد أن ينتفع به أحد . . إذن ما دام هو ليس مالكًا له، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين، أو يتبرع به لمشروع خيري، أو غير ذلك مما يرى المودع أنه في صالح الإسلام والمسلمين ؛ ذلك أن المال الحرام كما قدمت ليس ملكًا لأحد . فالفائدة ليست ملكًا للبنك ولا للمودع، وإنما تكون ملكًا للمصلحة العامة، وهذا هو الشأن في كل مال حرام، لا ينفعه أن تزكي عنه، فإن الزكاة لا تطهر المال الحرام، وإنما الذي يطهره هو الخروج منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يقبل صدقة من غلول " (رواه مسلم) .والغلول هو المال الذي يغله الإنسان ويخونه من المال العام . لا يقبل الله الصدقة من هذا المال لأنه ليس ملكًا لمن هو في يده.
وهل يترك تلك الفوائد للبنك، لأنها محرمة عليه ؟
لا يتركها، لأن هذا يقوي البنك الذي يتعامل بالربا، ولا يأخذها لنفسه، وإنما يأخذها ويتصدق بها في أي سبيل من سبل الخير.
قد يقول البعض: إن المودع معرض للخسارة إذا خسر البنك وأعلن إفلاسه مثلاً، لظرف من الظروف، أو لسبب من الأسباب.
وأقول لمثل هذا بأن تلك الخسارة أو ذلك الإفلاس لا يبطل القاعدة ولو خسر المودع نتيجة ذلك الإفلاس، لأن هذا بمثابة الشذوذ الذي يثبت القاعدة، لأن لكل قاعدة شواذ، والحكم في الشرائع الإلهية - والقوانين الوضعية أيضًا - لا يعتمد على الأمور الشاذة والنادرة . . فإن الجميع متفق على أن النادر لا حكم له، وللأكثر حكم الكل . فواقعة معينة لا ينبغي أن تبطل القواعد الكلية.
القاعدة الكلية هي أن الذي يدفع ماله بالربا يستفيد ولا يخسر، فإذا خسر مرة من المرات فهذا شذوذ، والشذوذ لا يقام على أساسه حكم.
وقد يعترض سائل فيقول: ولكن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه، فلماذا لا آخذ من أرباحه ؟
وأقول: نعم إن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه.
ولكن هل دخل المودع معه في عملية تجارية ؟ طبعًا لا.
لو دخل معه شريكًا من أول الأمر، وكان العقد بينهما على هذا الأساس وخسر البنك فتحمل المودع معه الخسارة، عندئذ يكون الاعتراض في محله، ولكن الواقع أنه حينما أفلس البنك وخسر، أصبح المودعون يطالبون بأموالهم، والبنك لا ينكر عليهم ذلك، بل قد يدفع لهم أموالهم على أقساط إن كانت كثيرة، أو دفعه واحدة إن كانت قليلة . . على أي حال، فإن المودعين لا يعتبرون أنفسهم مسئولين ولا مشاركين في خسارة البنك، بل يطالبون بأموالهم كاملة غير منقوصة.


العمل في البنوك
س 1: تخرجت في كلية التجارة وسعيت في طلب الرزق فلم أجد إلا عملاً بأحد البنوك، ولكني أعلم أن من أعمال البنوك ما يقوم على الربا كما أعلم أن الدين لعن كاتب الربا . فهل أقبل هذا العمل أم أرفضه علمًا بأنه مصدر رزقي ؟
ج: النظام الاقتصادي في الإسلام يقوم على أساس محاربة الربا، واعتباره من كبائر الذنوب التي تمحق البركة من الفرد والمجتمع، وتوجب البلاء في الدنيا والآخرة نص على ذلك الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، وحسبك أن تقرأ في ذلك قول الله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم). (البقرة: 276). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله). (البقرة: 287 - 289).
وقول رسوله: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ..
وسنة الإسلام في تشريعاته وتوجيهاته أن يأمر المسلم بمقاومة المعصية، فإن لم يستطع كف يده - على الأقل - عن المشاركة فيها بقول أو فعل، ومن ثم حرم كل مظهر من مظاهر التعاون على الإثم والعدوان، وجعل كل معين على معصية شريكًا في الإثم لفاعلها، سواء أكانت إعانة بجهد مادي أم أدبي، عملي أم قولي.
ففي جريمة القتل يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " رواه الترمذي وحسنه.
وفي الخمر يقول: " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه " رواه أبو داود وابن ماجه.
وفي جريمة الرشوة يلعن الرسول: " الراشي والمرتشي والرائش - وهو الساعي بينهما " كما روى ابن حبان والحاكم.
وفي الربا يروي جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه - وقال: " هم سواء " رواه مسلم، ويروي ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي . وصححه وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه، ورواه النسائي بلفظ: " آكل الربا ومؤكله وشاهداه - إذا علموا ذلك - ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة ".
وهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة هي التي تعذب ضمائر المتدينين الذين يعملون في مصارف أو شركات لا يخلو عملهم فيها من المشاركة في كتابة الربا وفوائد الربا.
غير أن وضع الربا لم يعد يتعلق بموظف في بنك أو كاتب في شركة، إنه يدخل في تركيب نظامنا الاقتصادي وجهازنا المالي كله، وأصبح البلاء به عامًا كما تنبأ رسول الله: " ليأتين على الناس زمان لا يبقي منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره " رواه أبو داود وابن ماجة.
ومثل هذا الوضع لا يغير فيه ولا ينقص منه امتناع موظف عن تسلم عمله في بنك أو شركة، وإنما يغيره اقتناع الشعب - الذي أصبح أمره بيده وحكمه لنفسه - بفساد هذا النظام المنقول عن الرأسمالية المستغلة، ومحاولة تغييره بالتدرج والأناة، حتى لا تحدث هذه المشكلة الخطيرة، فقد سار على هذه السنة في تحريم الربا ابتداء كما سار عليها في تحريم الخمر وغيرها.
والمهم هو الاقتناع والإرادة، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
وعلى كل مسلم غيور أن يعمل بقلبه ولسانه وطاقته بالوسائل المشروعة لتطوير نظامنا الاقتصادي، حتى يتفق وتعاليم الإسلام، وليس هذا ببعيد، ففي العالم دول تعد بمئات الملايين لا تأخذ بنظام الربا، تلك هي الدول الشيوعية.
ولو أننا حظرنا على كل مسلم أن يشتغل في البنوك لكانت النتيجة أن يسيطر غير المسلمين من يهود وغيرهم على أعمال البنوك وما شاكلها، وفي هذا على الإسلام وأهله ما فيه.
على أن أعمال البنوك ليست كلها ربوية فأكثرها حلال طيب لا حرمة فيه، مثل السمسرة والإيداع وغيرها، وأقل أعمالها هو الحرام، فلا بأس أن يقبله المسلم - وإن لم يرض عنه - حتى يتغير هذا الوضع المالي إلى وضع يرضي دينه وضميره، على أن يكون في أثناء ذلك متقنًا عمله مؤديًا واجبًا نحو نفسه وربه، وأمته منتظرًا المثوبة على حسن نيته " وإنما لكل امرئ ما نوى ".
وقبل أن نختم فتوانا هذه لا ننسى ضرورة العيش، أو الحاجة التي تنزل - عند الفقهاء - منزلة الضرورة، تلك التي تفرض على صاحب السؤال قبول هذا العمل كوسيلة للتعيش والارتزاق والله تعالى يقول: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم).


هل يتحقق الربا في الأوراق النقدية ؟
س: كثرت المناقشات والمجادلات حول الفائدة التي يحصل عليها الدائن من المدين: يقرض الرجل ألفًا من الدراهم يستردها بعد مدة معلومة ألفًا ومائة أو ألفًا ومائتين وتكون المعاملة بأوراق (بنكنوت) . . البعض يراها أنها حلال وليس فيها ربا، إذا جرت بالأوراق لا بذهب أو فضة، اللذين يقال منهما كانت تصنع العملة في القديم وفيهما فقط يحرم أخذ الفائدة المحددة في الوقت المحدد، وحجة هؤلاء أن مثل هذه الأوراق لم تكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك فلم تكن ضمن ما شمله التحريم.
أما الفريق الآخر فيرى أن لا فرق في التعامل بين ذهب أو فضة أو ورق، فالورق يقوم مقام الذهب أو الفضة في المعاملات، فهو بذلك مثله تمامًا في التحريم.
والآن وقد بسطنا أما فضيلتكم هذين الرأيين نرجو أن تتكرموا بموافاتنا برأي الشريعة في هذا الأمر.
جـ: أقول للأخ السائل عن هذا الحكم، إنني أرجح وأصحح رأي الفريق الثاني ولا أرى صوابًا غيره، وهو أن الأوراق " البنكنوت " تقوم مقام الذهب من حيث النقدية، ومن حيث المعاملة، فلا فرق بين ذهب وفضة، وبين ورق، أصبح الآن هو الذي يرى، الناس لم يعودوا يرون الذهب قط في المعاملات، ولا يرون الفضة إلا في الأمور التافهة، وأصبح هذا الورق هو العملة السائدة المنتشرة في العالم كله، فكيف نعطل حكم الربا من أجل أن الناس يتعاملون بورق ولا يتعاملون بذهب وفضة ؟ ؟
إن هذه الأوراق، من يملكها يعد في نظر الناس غنيًا، يجب عليه ما يجب على الأغنياء من الزكاة، ولا يجوز في نظر أحد أن يدفع له من مال الزكاة لاعتباره فقيرًا لا يملك ذهبًا ولا فضة، ولو قال أحد الناس ذلك لعدوه مهووسًا أو مجنونًا، هذه الأوراق يدفعها الرجل مهرًا، فإذا هو يستحل بها الفرج، لأنها مال، ويدفعها الرجل ثمنًا للسلعة، فإذا هو يستحل بها المبيع، ويدفعها الرجل أجرة للشيء المستأجر، فيستحل الانتفاع بالعين المستأجرة ويدفعها الرجل دية، إذا قتل خطأ، فيعوض عن دم القتيل وهكذا . . . كل المعاملات تجرى بهذه الأوراق، فهي تقوم تمامًا مقام الذهب والفضة، ولا يمكن أن يشك أحد في ذلك . . . وإلا ما رضي الإنسان بأن يأخذ هذه الأوراق دية عن مقتول ولا أن يأخذها مهرًا عن ابنته، ولا أن يأخذها ثمنًا لسلعة، أو أجرة لدار أو نحو ذلك، وإنما يراها الناس نقودًا، فإنها أصبحت نقودًا بالتعامل، وباعتماد السلطات الشرعية إياها، فأصبح لها قوة الذهب وقوة الفضة، فإني لا أرى أي مبرر أو مسوغ للتشكك في ذلك، أو التشكيك فيه، فمن أخذ فائدة على هذه الأوراق، أو أعطى فائدة فقد دخل في حكم الربا الحرام قطعًا، وأذن بحرب من الله ورسوله، وكل من اشترك في هذا العقد الربوي، فهو ملعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.


محنة الفرد المسلم في مجتمع لا يحكمه الإسلام
يا صاحب الفضيلة . هذه هي المرة الثالثة الني أوجه فيها رسالتي إليكم . وأكتفي هنا بأن أسجل صورة ملخصة للرسالتين السابقتين.
إني أكتب هذه الرسالة إلى فضيلتكم مبتدئًا إياها بتهنئتكم على ما وهبكم الله من سعة الاطلاع وغزارة العلم، ونظرتكم الثاقبة إلى المسائل الدينية والدنيوية، ثم توجيهاتكم القيمة . ولا أخال فضيلتكم إلا أن تعتبروني صادقًا فيما أقول، لأنه ليس ثمة ما يدعوني إلى سوى الصدق . هذه الرسالة - سيدي - لا أريد الجواب عليها بالراديو أو التلفاز، فهي شخصية بحتة، ولهذا تجد فضيلتكم مع هذا ظرفًا معنونًا باسمي.
يا صاحب الفضيلة، قد ظهر في هذا العصر أمور ومعاملات لم تكن موجودة أيام الصحابة والتابعين والأئمة، وأنا أعلم أن الإسلام غير عاجز عن حلها . ولكن أين المجتهدون ؟ ولو وجدوا، فمن يجمعهم لحل كل غامض ؟ ثم أيضًا أين هم العلماء الذين صارعوا الحياة المادية (التجارة ومشاكلها، وتغير النظم ومتاعبها، وتجدد المعاملات بأنواعها) فعلاً، فعرفوا قسوتها وذاقوا أتعابها ؟ إن أغلب علماء الدين يعرفون فقط ما دونته كتب الفقه القديمة عن المعاملات والجنايات وغيرها، لمجرد وظيفة قضاء وما أشبهها . ولذلك فهم لا يعرفون مدى الصعوبات التي تدونها الكتب، مع أن الحل موجود في الكتاب والسنة، إما بالنصوص الخاصة أو بالنصوص العامة، لو وجد التعمق والاجتهاد . مثلهم بذلك مثل الطبيب الذي يصف الدواء من الكتاب مع صرف النظر عن ظروف المرض والمريض، فأين أمثال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي منع قطع يد السارق، ومنع الزكاة عن المؤلفة قلوبهم، ومنع حد شارب الخمر . . . إلخ . لظروف خاصة، ورغم وجود آيات ناصة، فذلك هو العلم الصحيح والاجتهاد الحي، الذي حق للإسلام أن يسمى به " الملة السمحة ".
ومن المتأخرين، زار البلاد الأجنبية التي أنا صاحب تجارة فيها، شيخان عربيان من الراسخين في العلم (لم أسترخصهما بأن أذكر اسمهما، إنما يعرفهما فضيلتكم حق المعرفة) فعرضت عليهما مسائل كان في خاطري منها شيء، منها التأمين على البضائع المشحونة وغيرها لأن أهلها يصرون على ذلك، أو نعوضهم نحن عما يتلف.
ومنها: الاقتراض من البنوك لتوسعة العمل ومنه الكسب، وكل هذه تشتمل على مبالغ ضخمة لا يمكن تطبيق ما جاء في الكتب عليها، ولا العملاء ولا البنوك يوافقون على غير أنظمتهم بها.
فأجاب أحدهما حفظه الله أنه لا يقدر أن يفتي بمثل هذه المسائل لأنها تحتاج إلى اجتهاد إجماع . فقلت له: إني لا أطلب فتوى ولكن أريد رأيه الخاص بهذه المسائل المستجدة . فأجابني أنه إذا كانت المسألة مسألة إبداء رأي فهو حسب الظروف الراهنة لا يرى بأسًا بهذين الأمرين.
أما الثاني فهو مبدئيًا لم يتردد بأن يقول لي " لا بأس " إنما اشترط أن يكون المؤمن عنده شركة غير مسلمة، وأضاف أن المرحوم الشيخ بخيت أفتى بذلك.
والآن قد استجد عندي مسألة ثالثة، لا أطلب من فضيلتكم الفتوى من جهتها، وإنما ألتمس أن تتكرموا بإبداء رأيكم فيها، لأنها في الواقع مسألة عويصة وفي الصميم.
والمسألة هي: أنا صاحب تجارة في بلاد أجنبية ليس لها دين رسمي في دستورها، إنما حكومتها خليط من المسلمين وغيرهم، وكل منهم يتبع القوانين الغربية، وسكانها فيهم المسلمون وغير المسلمين وحكومتها تقول: إن كل ما تجبيه من مكوس وضرائب وجمارك . . إلخ هو لفائدة الشعب - مسلميهم وغير مسلميهم - ولكن المصيبة أن ضرائب تلك البلاد تصاعدية وباهظة فوق ما يتصوره العقل أو ترضى به النفس والذوق السليم . فلو كانت تلك الضرائب معقولة لهان الأمر ولم يظهر لدي أي مشكلة . ولنأخذ أمثلة من ضرائبهم التصاعدية لدخل السنوي، (تاركين العشرات من أنواع الضرائب الأخرى) ليتخيلها فضيلتكم:
(1) إذا كان دخلك السنوي 40000 فالضريبة عليه 12000.
(2) إذا كان دخلك السنوي 000 ,100 فالضريبة عليه 75000.
(3) إذا زاد دخلك السنوي عن 000 ,100 تصل الضريبة إلى 89%.
(4) إذا جمعنا كل أنواع الضرائب التي يدفعها الإنسان سنويًا فقد تصل إلى 108% من دخله . أي أنه يصرف على بيته وأيضًا يدفع 8% من رأس المال (لأن المصرف البيتي والشخصي لا يخصم من الدخل قبل تقدير الضريبة) فأنا شخصيًا دفعت في العام الماضي: 000 ,70 كضريبة دخل فقط.
فالسؤال الآن هو: هل يمكنني أن أنوي ما أدفعه أنه للقسم المسلم من السكان . وبذلك تسقط الزكاة لأني لو أخرجتها فوق ما أدفع للحكومة من تلك لثقل الحمل على كاهلي ؟
وقبل أن تبدوا رأيكم بهذا السؤال، أعرف أن لدى حضرتكم بعض الملاحظات عليه فها أنا أوضحها :
ملاحظة فضيلتكم الأولى: " أنت لم تدفع المبلغ اختيارًا، بل جبرًا ".
جوابي: نعم، ولو دفعته اختيارًا لما عرضت لي هذه المشكلة، ولم يكن لزوم بحثها . أيضًا بإمكاني أن أنويها للمسلمين طوعًا لا كرهًا، أو أنوي ما يجب إخراجه لهم.
وفيما يلي أختصر بعض الملاحظات والجواب عليها . إذ كانت مطولة في أصل الرسالة.
ملاحظة فضيلتكم الثانية: لم لا تترك هذه البلاد ؟
الجواب: حكومة تلك البلاد اشتراكية فلا تسمح لي بإخراج نقودي من بلادهم.
ملاحظة ثالثة: اخرج بنفسك ودع نقودك وابدأ العمل من جديد في بلاد عربية غير اشتراكية :
الجواب أنا الآن في الـ 65 من العمر، ومع أني ولله الحمد محتفظ بحيويتي، فالذي بعمري لا أقول لا يمكنه، بل أقول: إن ظروفه غير ظروف الشباب . وأنا عليّ مسئوليات عائلية، ولي منزلة اجتماعية لا يسهل إزاءها التقشف.
ملاحظة رابعة: هل تشكو من مرض ؟
الجواب: جسماني لا، ولكني مرهق عقليًا ومتوتر عصبيًا . وإلى حد ما فإنني بسبب ذلك خائر القوى، فاقد الطمأنينة والاستقرار.
ملاحظة خامسة: لماذا لا تعرض نفسك على طبيب نفساني ؟
الجواب: لم أترك بابًا إلا طرقته . وقد هالني أن من يسمون أطباء نفسانيين هم أحوج الناس إلى العلاج . إذن لا يوجد طبيب نفساني بحق على الإطلاق . وإني أرى أن طبيبي النفساني يكمن في عالم ديني مثقف، واسع الاطلاع، مجرب يراعى الظروف والأحوال، وإني أرجو الله أني في هذه الرسالة قد وجدت ضالتي المنشودة.
تكرموا بدراسة ظروفي دراسة دقيقة، ثم تفضلوا بإعطائي رأيكم الذي أرجو أن أجد فيه ما يريح النفس إن شاء الله.
ع . س.
الجواب:
الأخ الفاضل حفظه الله ووفقه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فأبدأ رسالتي إليكم بإزجاء الشكر لكم على ما أضفيتموه علي في رسائلكم السابقة من أوصاف وفضائل، أسأل الله تعالى أن يجعلني لها أهلاً، وأن يحقق حسن ظنكم بي، ويغفر لي ما لا تعلمون.
وأثني بالمعذرة عن تأخري في الإجابة عن رسالتكم بل رسائلكم، التي سرني ما تضمنته من معان تدل على فهم ووعي، وخبرة بالحياة والناس، والحقيقة أني أخرت الرد عليكم عن قصد حسن لا عن إهمال متعمد، فقد كنت أؤمل أن أجد عند نفسي فراغًا يمكنني من كتابة رد مفصل على رسالتكم، نظرًا لما اشتملت عليه من رغبة صادقة في معرفة حكم الإسلام - كما أتصوره على الأقل من وجهة نظري - في مسائل مهمة، أصبحت جزءًا من حياتنا الحاضرة للأسف الشديد.
ورغم طول المدة لم أتمكن من تحقيق ما رغبت فيه حتى جاءتني رسالتك الأخيرة، فأجبرتني على أن أكتب لك شيئًا رغم ضيق الوقت وكثرة الشواغل، ومشكلة أمثالنا: أن الواجبات عندهم أكثر من الأوقات، والزمن لا ينتظر، والناس لا يعذرون، والعمر قصير، والظهر كليل، وقد قال حكيم: لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن سله أن يقوي ظهرك.
إن المسائل التي سألت عنها كلها تنبع من عين واحدة، وكلها يعبر عن مشكلة واحدة، وهي مشكلة الفرد المسلم يعيش في ظل نظام غير إسلامي، وحياة غير إسلامية.
إن كل الأمور التي سألت عنها من التأمين على البضائع، والاقتراض من البنوك لتوسعة التجارة، ووجود ضرائب تصاعدية عالية في بعض البلاد، مع ما يجب على المسلم في ماله من زكاة . . . كل هذه وأمثالها، لم تكن لتحدث لو كان نظام الإسلام هو الذي يحكم الحياة، ويقود المجتمع وفق شرع الله . ولكن مأساتنا أننا أخذنا أنظمة الحضارة الغربية وخاصة في المال والاقتصاد، وهي أنظمة رأسمالية، تقوم في الأساس على فلسفة للمال غير فلسفتنا، ونظرة للحياة غير نظرتنا . فالربا يجري منها مجرى الدم في العروق، لا تحيا إلا به، ولا يمكنها الاستغناء عنه، والمعاملات المشتملة على (الغرر) تسري في نظامها كله . . ولهذا يكون من الظلم أن نحاول نحن ترقيع هذا النظام بأجزاء إسلامية، لأن هذه الأجزاء ستكون " قطع غيار " في غير جهازها وغير مكانها.
إن خطأنا الأساسي أننا نستفتي الإسلام في مشكلات لم يصنعها هو، ونريد منه أن يعالج أمراضًا جلبناها نحن من مكان آخر، ولم نتبع أسلوب الإسلام في الوقاية منها.
نستورد نظام المصارف أو البنوك بعجره وبجره، كما أنشأته الرأسمالية الغربية الربوية اليهودية، ونخضع رقابنا له، ونجري معاملاتنا على أساس وجوده . ثم نقول للإسلام: حل مشكلاتنا مع البنوك الربوية.
وجواب الإسلام الصحيح: أن دعوا هذه البنوك واسسوا لأنفسكم مصارف أو " بنوكًا " إسلامية الأساس، تقوم على غير الربا وتتعامل بشرع الله - إن كنتم مؤمنين.
وليس هذا بالمستحيل ولا بالمتعذر لو صدقت النيات وصحت العزائم، فقد قيل: إذا صدق العزم وضح السبيل.
وقد كتب كثير من الباحثين الإسلاميين المتخصصين في المالية والاقتصاد كثيرًا من البحوث الجيدة حول إقامة مصارف إسلامية، ووضعوا مشروعات عملية لهذا، ولا يحتاج الأمر إلا إلى التبني من جهات تملك المال والنفوذ.
قد تقول: وما ذنب الفرد إذا انحرف المجتمع، أو انحرفت الأنظمة والحكومات ؟ وماذا يستطيع أن يفعل وهو فرد، لا يقطع عرقًا ولا يريق دمًا ؟
والجواب: أن المجتمع ما هو إلا أفراده، وقد ساهم هو بسكوته ورضاه، بل بتعامله الإيجابي مع المؤسسات اللاإسلامية - في صنع الواقع المخالف للإسلام.
وينبغي أن يظل الفرد المسلم غير راض عن نفسه، وعن الأوضاع المعوجة من حوله وأن يبقى هذا الشعور حيًا متوقدًا بين جنبيه، حتى يستطيع - بالتعاون مع أمثاله من المؤمنين الثائرين على حياتهم وعلى انحرافات مجتمعهم أن يعملوا على تغيير الأوضاع اللاإسلامية إلى أوضاع إسلامية، يومًا ما.
إن هذه الشحنة هي رصيد هذا التغيير المنشود . وبدون هذه الشحنة النفسية من الغضب والنقمة لا أمل في أن يستقيم نظام أعوج، أو يصحح وضع منحرف.
لا بد أن يبقي الفرد المسلم في ظل الأوضاع المذكورة شاعرًا بالإثم، وبالضيق، وبالتبرم، فإن هذا الإحساس من بقايا الإيمان، لأن معناه أنه لا يزال يرى المعروف معروفًا والمنكر منكرًا وأن أخطر ما تصاب به الأمة المسلمة أن تفقد - بطول رؤيتها للمنكرات وإلفها لها - إحساسها بها، وتمييزها لها، فلا تلبث أن يختلط عليها الأمر ويلتبس عليها السبيل، وتضطرب في حياتها الموازين، حتى ترى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا . وقد تتوغل في الضلال، فتنتهي إلى مرحلة أسوأ وأقبح، وهي أن تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وربما تفعل ما فعلت بنو إسرائيل، فتقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.
إني أشعر ويشعر كل عالم غيور فاهم لحقيقة الإسلام وحقيقة الأوضاع من حوله ولا يأخذ الأمور بظواهرها، ومن سطوحها لا من أعماقها - أشعر بأن الفرد المسلم يعاني من هذه الأوضاع ما ينوء به ظهره، إذا أراد أن يحيا مسلمًا حقًا، غير مخدوش الإسلام.
ولكني أشعر بجوار ذلك أن من المخاطرة بدين المرء، وبمصير المجتمع كله - إصدار " فتاوى تبريرية " غايتها محاولة إيجاد مخارج فقهية لإضفاء الشرعية على الواقع الذي يضغط علينا ضغطًا شديدًا، ناسين أن رسالة الدين أن يرتفع بواقع الناس إلى مثله العليا، لا أن يهبط بمثله ليبرر واقع الناس.
إن هزيمتنا الروحية والفكرية أمام الحضارة الغربية وشعورنا بالنقص تجاهها، هي التي وضعتنا هذا الوضع الغريب، وهي محاولة تطويع الدين للحياة، بدل تطويع الحياة للدين.
وأي حياة ؟: إنها حياة لم نصنعها نحن بعقولنا وأيدينا مختارين، بل صنعت لنا فأخذناها كما هي، فنحن معها مجرد مستوردين يأخذون ما يصنع لهم، لا منتجين يصنعون ما يلائمهم . وفرق كبير بين الصانع والمستورد . الصانع إيجابي منشئ، والمستورد سلبي مستقبل.
ولئن جاز استيراد السلع المادية على كراهة، لا يجوز استيراد الأفكار والمذاهب، وما ينبثق عنها من أنظمة تعبر عنها، ولئن حدث ذلك في غفلة الزمن وغيبة الشخصية الإسلامية عن مسرح الواقع - لا يجوز أن يكون عملنا الفكري البحث عن فتاوى، لإلباس الأوضاع الأجنبية زيًا شرعيًا.
إن أول مظاهر السيادة والاستقلال أن نتحرر من عقدة النقص تجاه الغرب وفلسفته وحضارته وأنظمته، وأن نصمم على أن نقول " لا " بملء فينا، لكل ما لا يوافق ديننا.
إننا لا نبقي للدين أي احترام إذا جعلنا مهمته تبرير الواقع وتسويغ ما يفعله الحكام، يمينيين كانوا أو يساريين، رأسماليين أو اشتراكيين . أي جعلناه مجرد " موظف تشريفات " عمله أن يرحب بكل وضع جديد، ويبارك كل نظام مستحدث، فهو في أيام سطوة الرأسمالية يحلل الربا والاحتكار والتظالم الاجتماعي، وفي أيام سطوة الاشتراكية يجيز التأميم والمصادرات بحق وبغير حق ..
المشكلة إذن ليست مشكلتك يا أخي وحدك، ولكنها مشكلة الأمة الإسلامية في هذا العصر: هل تريد أن تعيش بالإسلام وتحيى نظامه وحضارته أم تريد أن تظل ذيلاً للحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والاشتراكي.
وبعبارة أخرى: هل تريد أن تعيش لرسالتها، أصيلة تقود ولا تقاد وتُتَّبع ولا تَتَّبع أم تريد أن تحيا حياة القرود، مهمتها التقليد والمحاكاة ؟
الأمر يا أخي أكبر مما تتصور، ويتصور بعض المتعجلين من المشتغلين بالفقه والفتوى، فلا تحمل على علماء الدين إذا خالفوك في الاتجاه، ولا ترمهم بجهل الدين والحياة، وثق أن عمر - الذي تحدثت عنه في رسالتك - لو كان موجودًا اليوم لرفض هذه الأوضاع كلها، وغيرها باسم الإسلام، ولم يجعل أكبر همه أن يسوغها بأي سبيل.
على أن المسائل التي سألت عنها ليست في درجة من حيث القبول والرفض، ولعل أقربها إلى القبول عملية التأمين على البضائع فيمكن أن يكون لها وجه من الناحية الشرعية لولا أنها مشوبة بالربا، كما هو الشأن في كل شركات التأمين حاليًا.
ويمكن إجازة ذلك بحكم الظروف الراهنة، وبقدر الحاجة، بخلاف التأمين على الحياة، فهو بعيد كثيرًا عن صور المعاملات الإسلامية، ولا ضرورة إليه.
أما الاقتراض من البنوك بالفوائد، فهو حرام قطعًا، لأنه الربا الذي لعن محمد - صلى الله عليه وسلم - آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه . ولا يحل مثل هذا الحرام القطعي إلا لضرورة، مثل الحاجة إلى القوت للأولاد، والكسوة الضرورية لهم، وعلاج المريض الذي يخشى عليه من تفاقم المرض ونحو ذلك.
أما التوسع في التجارة فليس ضرورة يباح لها مثل هذا الحرام الذي آذن القرآن أصحابه بحرب من الله ورسوله.
وليعش المسلم قانعًا بالقليل من الحلال مباركًا له فيه، بدل الكثير من الحرام الذي يمحقه الله في النهاية، فالربا وإن أكثر فهو إلى أقل.
أما موضوع ما تدفعه من ضرائب تصاعدية باهظة لتلك الدولة التي ذكرتها من الزكاة، وهي دولة لا دينية، ومن بين سكانها مسلمون ونيتك أن يكون هذا للمسلمين من رعاياها . . فهذا ما لا يجوز بحال . فإنما يصح أن يحتسب ما يؤخذ من المال زكاة إذا توافرت له شروط ثلاثة :
1- أن يؤخذ ما يؤخذ باسم الزكاة ورسمها، أي بشروطها ونسبها ومقاديرها الشرعية، لأنها شعيرة من شعائر الإسلام الكبرى، والشعائر لا بد أن تبقى لها صورتها وعنوانها.
2- أن يصرف في مصارف الزكاة الشرعية كما أمر الله في كتابه . وهذا مترتب على الأول.
3- أن يدفع بنية الزكاة، لأنها عبادة ولا تجزئ إلا بنية.
فلو سلمنا بتحقيق الشرط الثالث وهو النية، فمن أين لنا بالشرطين الأولين ؟
ولقد رجحت في كتابي " فقه الزكاة " أن الضرائب الوضعية في البلاد الإسلامية نفسها لا يجوز أن تحتسب من الزكاة، فكيف ببلاد وثنية أو لا دينية لعل المسلمين لا يصيبهم من دخل حكوماتها إلا الفتات لو أصابوه.
وما اخترته هنا هو ما أفتى به العلامة المجدد السيد رشيد رضا، وشيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت رحمهما الله .وقد قرأت أخيرًا أن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في القاهرة في مايو 1965 اتخذ في ذلك قرارًا هذا نصه:
" إن ما يفرض من الضرائب لمصلحة الدولة، لا يغني القيام به عن أداء الزكاة المفروضة ".
ولهذا، فإن عليك أن تقوي إرادتك، وتعزم على إخراج زكاتك، تطهيرًا لنفسك ومالك وشكرًا لنعمة الله عليك، فما أظن تلك الضرائب تطهر نفسًا أو مالاً أو تفي بشكر النعمة، ولا أظنك تعتقد هذا أيضًا.
ومعنى هذا أن المتدين يتحمل من الأعباء المالية ما لا يتحمله غيره، وهذا صحيح . ولكن هذه ضريبة الإيمان والإسلام في عصر ضعف فيه الدين، وقل اليقين، ولهذا جاء في الحديث: " أن القابض على دينه في هذا الزمان كالقابض على الجمر " وكان المستمسك بدينه في خضم فتن هذا العصر له أجر خمسين من بعض الصحابة.
وأعتقد أن في هذه الصفحات ما يكفي لتوضيح ما سألت عنه، ووصله بجذوره الحقيقية، وما كنت أحسب حين أمسكت بالقلم إلا أنني سأكتب لك سطورًا معدودة، ولكن الله هو الذي قدر لي أن أكتب ما كتبت، عسى أن يكون فيه نفع وعبرة.
أما ما تشكوه من إرهاق الجسم، وقلق النفس، وتوتر الأعصاب، فأنصحك بتلاوة القرآن تلاوة تدبر، والتضرع إلى الله تعالى والوقوف على عتبته موقف العبودية الخاشعة، ومجالسة الصالحين ما استطعت وقراءة سيرهم، ففي ذلك شفاء لما في الصدور.
وإني لمعجب بكلامك العميق البصير عن الطب ورجاله، وأسأل الله أن يشرح لك صدرك، وييسر لك أمرك، ويثبت على الحق قدميك، ويجعل لك نورًا تمشي به في الظلمات، وفرقانًا تميز به بين المتشابهات، ويغنيك بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يجعل لنا حظًا من هذه الدعوات معك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الرشوة لاستنقاذ سجين مذنب
س: ما حكم الشرع بالنسبة لشخص ضبط في تهريب ****** في بلد ما، وله عم يتجول بين الناس يطلب سلفة لإنقاذ هذا المهرب " السجين " بطريق الرشوة، علمًا بأن العم غير راض عن تصرف ابن أخيه . وإنما الدافع لإنقاذه هو طول مدة السجن (خمسة عشر عامًا) وللسجين عائلة لا يعولها سواه ؟
ج: هذا الشخص الذي ارتكب هذا الذنب، وهذه الجريمة، جريمة تهريب ال******، يستحق العقوبة، التي تقررها السلطات الشرعية المسئولة، لأنه ليس هناك أشد إفسادًا للناس من هذه ال******، هي كالخمر أو هي أخت الخمر، ولهذا يرى ابن تيمية وغيره أن شاربها يحد حد الخمر، وأن مستحلها يكفر، بل لعل أثرها أشد ضررًا من ضرر الخمر نفسها، لأنها تعيش الناس في أوهام، في واد من الأحلام يرى البعيد قريبًا، والقريب بعيدًا، ويتخيل ما لا يقع، رجل " مسطول " يقول: رأس بلا كيف تستأهل ضرب السيف . مثل هذا الصنف لا ينفع، لا في حرب إسرائيل، ولا تنهض به أمة، ولا ترتفع به راية، ولا تقوم به نهضة ولا تتحقق به حياة طيبة . . فالشخص الذي يساعد على إفساد الشعب وعلى إفساد الناس، في تجارة ال****** أو في تهريبها يستحق عقوبة بليغة، فإذا قررت دولة ما عقوبة مثل هذا بالسجن خمس عشرة سنة يجب أن ينالها، وهو يستحقها، فالسعي في تخليص مثله من العقوبة المستحقة سعى في باطل وإثم مبين.
فإذا كان السعي في تخليصه عن طريق الرشوة، يكون الإثم أكبر، لأننا نزيد الفساد فسادًا آخر . . لا نكتفي بالفساد الذي صنعه صاحبنا في ترويج هذا السم، ولكن نأتي إلى فساد آخر . . فساد أخلاقي . . فنفسد الناس الموظفين، أو القادرين على أن يفعلوا شيئًا في هذه النواحي، بالرشوة، فهذه الرشوة حرام، حرام، والساعي فيها يرتكب محرمًا لا شك فيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد لعن الراشي والمرتشي والرائش (رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وزادوا: والرائش يعني الذي يسعى بينهما . ورواه أحمد والبزار والطبراني عن ثوبان وفيه من لا يعرف)، والرائش هو المتوسط بينهما . . . كلهم ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما أفسد مجتمعاتنا شيء كهذه الرشوة، الرشوة تفسد كل شيء، تجعل كل شيء لا يمكن أن يتم إلا بالدفع، قال الشاعر :
إذا كنت في حاجة مرسلاً وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيمًا ولا توصه وذاك الحكيم هو الدرهم
إن الحياة لا تفسد، والمجتمعات لا تدمر، إلا بمثل هذه الأمور.
إن هذا الشخص - العم - يرتكب إثمًا عظيمًا بسعيه في تخليص هذا السجين الذي استحق جزاءه عن طريق الرشوة.
وبدل أن يدفع رشوة، يدفع هذا المال لأولاد السجين، فما دام له عيال وهو مشفق عليهم، فبدلاً من أن يجمع المال، أو يستلف من الناس، ليدفع رشوة، ويرتكب فسادًا عريضًا، يدفع هذا لأولاد ابن أخيه، هذا هو الأولى . وفي الحقيقة نرى واجبًاعلى الحكومات والدول أن ترعى أولاد السجناء، وهذا ولا شك قصور في القوانين الوضعية فهي لا تلتفت إلى هذه الناحية، فحين تسجين الناس، لا تبحث عمن وراءهم . . وهذا مما يتسبب في فساد آخر، لأن الأولاد إذا تركوا بدون كفاية اقتصادية، ولا رعاية اجتماعية فإنهم يكونون معرضين لأن تأخذهم أيدي الشر والإفساد، وتعلمهم ما يضرهم . فلابد من رعاية المجتمع، عن طريق الضمان الاجتماعي وغير ذلك.
والله أعلم.


الكذب مجانب للإيمان
س: أعجب لمسلم يؤدي جميع فرائض الإسلام، ومع ذلك لا يتورع عن الكذب فهل يعتبر هذا من الصالحين؟
جـ :الكذب خلق سيئ ليس من أخلاق الصالحين ولا المؤمنين، وإنما هو من أخلاق المنافقين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " (رواه الشيخان). وفي رواية أخرى: " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن، ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ". (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).
فالكذب ليس من خصال المؤمنين، وإنما هو من خصال المنافقين، الذين يكذبون دائمًا، ويؤكدون كذبهم بالحلف، حتى في يوم القيامة يكذبون أمام الله ويحلفون له كما كانوا يحلفون للمسلمين في الدنيا، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون . وقد جاء في القرآن الكريم " (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) (النحل: 105). وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال: نعم . قيل: أيكون بخيلاً ؟ قال: نعم . قيل: أيكون كذابًا؟ قال: لا ". (رواه مالك مرسلاً عن صفوان بن سليم).
من الناس من يكونون ضعفاء النفوس، يتصفون بالجبن وشدة الفزع.
ومن الناس من يكونون بخلاء، يتصفون بالشح وقبض اليد.
هاتان الصفتان قد تكونان في الجبلة والطبع.
ولكن الكذب لا يكون إلا مكتسبًا، وهذا الذي يحاسب عليه الإسلام ويشدد فيه أبلغ ما يكون التشديد . وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا.
وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". (متفق عليه من حديث ابن مسعود).
فالصدق عادة تكتسب بالتحري، وبالمجاهدة وبالرياضة وبالتعود . وعلى المسلم أن يعود أبناءه منذ نعومة أظافرهم على الصدق، وينهاهم عن الكذب . حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أحد الآباء يقول لابنه مرة: سأعطيك كذا وكذا . فقال له: هل تنوي أن تعطيه ؟ قال: لا . قال: إما أن تعطيه وإما أن تصدقه . فإن الله نهى عن الكذب . قال: يا رسول الله، أهذا من الكذب ؟ قال: " نعم . إن كل شيء يكتب . الكذبة تكتب كذبة، والكذيبة تكتب كذيبة " (رواه أحمد وابن أبي الدنيا عن حديث الزهري عن أبي هريرة ولم يسمع منه) . والكذب يتفاوت قطعًا، فكلما كان ضرره أشد كان النهي عنه أعظم والإثم فيه أكبر . هناك كذب يعتبر من الصغائر، وكذب يعتبر من الكبائر.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر ". (رواه مسلم).
هؤلاء المذكورون في الحديث يرتكبون المعصية دون حاجة إليها، فالملك أو الرئيس الكذاب الذي يدجل على الناس - والمفروض فيه أن يكون قدوة حسنة إثمه عظيم.
والذي يزني بعد أن تجاوز طيش الشباب إلى حكمة الشيخوخة.
والعائل المستكبر فقير لا حيلة له ومع ذلك يتكبر أن يسمع الموعظة، أو النصيحة، أو غير ذلك مما فيه إرشاد له وتوجيه إلى الخير . هؤلاء الثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.











الكذب الأبيض
س: وعدت صديقتي أن أزورها في يوم معين، فلما جاء ذلك اليوم شغلتني بعض الشواغل العائلية، فلم أقم بزيارتها الموعودة فلما قابلتها استحييت منها فاعتذرت بأن ضيوفًا قدموا علي فجأة فلم أتمكن من مغادرة المنزل.
فهل هذا اللون من الكذب حرام ؟ مع أنه لا يضر صاحبتي ولا يضرني، وإنما خلصني من مأزق حرج بلطف، ولهذا يسمونه " الكذب الأبيض " ؟ وليس مثل الكذب في البيع والمعاملة، والذي يترتب عليه غش وتدليس، أو الكذب في الشهادة الذي يترتب عليه ضياع حقوق، وما شابه ذلك من الكذب الذي لا يشك إنسان في تحريمه دينًا.
إنني وغيري نتورط كثيرًا في هذا النوع من الكذب الذي يكاد يطبع حياة الناس اليومية، حتى أصبح من سمات العصر.
ولهذا أود أن تشرحوا لنا موقف الدين من هذه البلوى، عسى أن تجدوا لنا فيها رخصة نستريح إليها، ونعتمد عليها . وإلا فيا ويلنا وويل أهل عصرنا كافة إلا من رحم ربك . وقليل ما هم.
جـ: إن انتظار المستفتي رخصة يستريح إليها من عالم ديني يثق به أمر لا حرج فيه شرعًا، وبحث العالم المفتي عن رخصة لسائله تريحه من الحيرة والقلق والشعور بالإثم، أمر لا بأس به أيضًا، وقد قال إمام الفقه والحديث والورع، سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.
ولكن ليس كل ما تطلب الرخصة فيه يكون في الاستطاعة الحصول عليها.
ومن ثم لا أجد هنا متسعًا للرخصة في الكذب وإن سماه الناس أبيض، إلا في حدود ضيقة سأبينها بعد.
فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام، ويعده من خصال الكفر أو النفاق . . ففي القرآن نقرأ: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون). (النحل: 105).
وفي السنة: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر (رواه الشيخان) . وفي رواية لمسلم: " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ".
وفي حديث آخر للشيخين: " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
ولهذا جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا: " الكذب مجانب الإيمان " (رواه البيهقي وصحح الموقوف) .وعن سعد بن وقاص رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب " (رواه البزار وأبو يعلي ورواته رواة الصحيح والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا، وقال الموقوف أشبه بالصواب). وفي حديث مرسل رواه مالك: قيل يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال: " نعم " . قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال: " نعم " . قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: " لا ". (رواه مالك مرسلاً عن صفوان بن سليم).
ولهذا قالت عائشة: " ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكذب ". (رواه أحمد والبزار وابن حيان والحاكم وصححاه).
وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب . وتربية أبنائه على التطهر منه، سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا . يكفي أنه كذب، وإخبار بغير الواقع، وتشبه بأهل النفاق.
وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق إلا إذا جر عليهم منفعة، ولا يجتنبوا الكذب إلا إذا جلب عليهم مضرة، فالتمسك بالفضيلة واجب وإن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر واتقاء الرذيلة واجب وإن درت بعض النفع الآني المحدود.
وإذا كان الإنسان يكره أن يكذب عليه غيره، ويخدعه باعتذرات زائفة، وتعللات باطلة، فواجبه أن يكره من نفسه الكذب على الآخرين، على قاعدة عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان، فلا يستطيع التحرر منه، وهذا هو المشاهد الملموس، الذي عبر عنه الشاعر قديمًا فقال :
عود لسانك قول الصدق وارض به إن اللسان لما عودت معتاد
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين . فيقول: " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا". (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وصححه واللفظ له).
ومع هذا فإن من خصائص الإسلام أنه دين يجمع بين المثالية والواقعية في توازن وتناسق ولا يكتفي بالتحليق في أجواء المثاليات المجنحة، دون النزول إلى أرض الواقع الذي يعيشه الناس، كما فعل بعض فلاسفة الأخلاق المثاليين من أنصار مذهب الواجب لذاته مثل الفيلسوف الألماني الكبير " كانت " الذي لم يرخص في الكذب ونحوه في أي موضع، ولأي سبب ومهما تكن النتيجة.
أما الإسلام فهو منهج الله الذي يعلم من طبيعة الحياة، وضرورات الناس فيها، ما جعله يرخص في الكذب في مواضع معينة، مراعاة لطبيعة البشر، وتقديرًا لما ينزل بهم من ضرورة قاهرة أو حاجة ملحة.
ولم أجد من وضح هذا الجانب، ووفاه حقه من البحث والشرح مثل الإمام أبي حامد الغزالي في موسوعته الإسلامية " إحياء علوم الدين " ويحسن بي أن أنقل هنا مقتطفات من حديثه بلفظه، لما فيها من التحقيق والبيان حيث يقول:
" اعلم أن الكذب ليس حرامًا لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً، وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذونًا فيه، وربما كان واجبًا.
قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله، فدخل دارًا، فانتهى إليه فقال: أرأيت فلانًا ؟ ما كنت قائلاً ؟ ألست تقول: لم أره ؟ وما تصدق به . وهذا الكذب واجب.
فتقول: " الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا".
ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب، فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة . فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة.
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: " ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء من الكذب، إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها ". (أخرجه مسلم).
وقالت أيضًا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمى خيرًا ". (متفق عليه).
وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل الكذب يكتب على ابن آدم، إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما ". (أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصر وحسنه).
قال: " فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له، أو لغيره ".
أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله، فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان، فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله " (الحاكم من حديث عمر بلفظ: " اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله " وإسناده حسن، كما قال الحافظ العراقي)، وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلمًا، وعرضه بلسانه، وإن كان كاذبًا.
وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه، فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه، فيعدها في الحال تطييبًالقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به.
ولكن الحد فيه، أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعًا في الشرع من الكذب، فله الكذب، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى، لأن الكذب يباح لضرورة، أو حاجة مهمة فإن شك في كون الحاجة مهمة، فالأصل التحريم، فيرجع إليه.
" ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد، ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له، فيستحب له أن يترك أغراضه، ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق بغرض غيره، فلا يجوز المسامحة لحق الغير، والإضرار به، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه، لأمور ليس فواتها محذورًا، حتى إن المرأة لتحكي من زوجها ما تفخر به، وثكذب وتكذب لأجل مراغمة الضرات (أو الزميلات)، وذلك حرام.
وقالت أسماء: سمعت امرأة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل، أضارها بذلك، فهل على شيء فيه ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ". (متفق عليه، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق).
" ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب (أو المدرسة أو الصلاة) إلا بوعد أو وعيد، أو تخويف كاذب، كان ذلك مباحًا.
" نعم، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبًا، ولكن الكذب المباح أيضًا قد يكتب، ويحاسب عليه، ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفي عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح، ويتطرق إليه غرر (أي خطر) كبير، فإنه قد يكون الباحث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه، وإنما يتعلل ظاهرًا بالإصلاح، فلهذا يكتب ".
" وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله: هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ؟، وذلك غامض جدًا، والحرام تركه، إلا أن يصير واجبًا، بحيث لا يجوز تركه، كما لو أدي إلى سفك دم، أو ارتكاب معصية كيف كان ". (إحياء علوم الدين، جـ 3، ص 137، ص 139).
وعلى ضوء هذا الشرح والبيان الوافي، نعود إلى السؤال المذكور، وما جاء فيه من اعتذار بأمر لم يحدث، تخلصًا من الحرج، وهذا غير الأمور الثلاثة المستثناه في الحديث فهل هو مما يقاس عليها ؟ يبقي على أصل الحرمة.
والحقيقة، أننا إذا نظرنا إلى سؤال الأخت المستفتية، نجدها ارتكبت خطأين اثنين:
الأول: أنها وعدت صديقتها بالزيارة وأخلفت، مع أن الوفاء بالوعد واجب، وإخلافه من آيات النفاق، كما ذكرنا، إلا من عذر.
الثاني: أنها بررت هذا الإخلاف بعذر مختلق، فعالجت الخطأ بخطأ آخر . على نحو ما قال الشاعر :
إذا استشفيت من داء بداء فاقتل ما أعلك ما شفاك
وكان الأولى بها أن تقول الحقيقة، وإن ظهر تقصيرها، حتى لا تعود إلى ذلك مرة أخرى . ولا مانع من التلطف والترفق في اختيار الصيغة التي تظهر بها الحقيقة لصديقتها . ومن التلطف المباح هنا أن تستخدم " المعاريض بدل الكذب الصريح . فقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب . وقال عمر: أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب ؟ (رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعًا وموقوفًا، قال البيهقي: الصحيح موقوف). وروي ذلك عن ابن عباس وغيره . وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب . فأما إذا لم تكن حاجة أو ضرورة، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعًا، ولكن التعريض أهون.
ومثال التعريض ما روي أن مطرف بن عبد الله أحد علماء التابعين الأجلاء، دخل على زياد بن أبيه الوالي الأموي المعروف، فسأله الوالي عن سبب تأخره في زيارته، فقال: ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله.
ففهم الأمير منه أنه يتعلل بمرض أصابه، مع أن السليم أيضًا لا يرفع جنبه إلا ما رفعه الله، وهذا ما قصده مطرف.
فإذا لم يحضرها، أو لم يمكنها التعريض بمثل ما ذكرنا فهل يجوز لها التصريح بالكذب، كما فعلت السائلة ؟
والجواب هنا يتوقف على معرفة مدى العلاقة بين الصديقين، وهل يخشى أن تسوء أو تضعف إذا ذكرت ما وقع بالفعل ؟ فإذا خشي ذلك، وكان قلب الصديقة لا يطيب إلا بمثل ما اعتذرت به إليها، كان ذلك من باب الضرورة التي تقدر بقدرها، على ألا تتخذ ذلك عادة، فيسهل الكذب عليها لحاجة، ولغير حاجة.
والتشديد في هذا النوع من الكذب ليس معناه أن حرمته في درجة ما جاء في السؤال من الكذب في البيع والمعاملة، أو الكذب في الشهادة ونحوها، فإن الكذب المحرم تتفاوت مراتبه تفاوتًا بعيدًا.
فمنه ما هو من صغائر المحرمات.
ومنه ما هو من كبائر المحرمات، كالكذب في الشهادة التي عدها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر، وقرنها القرآن والسنة بالإشراك بالله تعالي.
ومثل ذلك الكذب في اليمين، كالذي يفعله التجار لترويج السلعة، ففي الحديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، المنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره - أي يطيل ثيابه كبرًا واختيالاً - ". (رواه مسلم).
وكذلك كذب الملوك والرؤساء، لما وراءه من دجل وتضليل، ففي الصحيح: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل (أي فقير) مستكبر ". (رواه مسلم أيضًا).
ومثله الكذاب، الذي يكذب الكذبة فتنتشر عنه في الآفاق، مثل أصحاب الصحف، ووكالات الأنباء في عصرنا.
وشر من هذا كله، الكذب على الله ورسوله، كما في الحديث المتواتر: " من كذب على متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار ".


كذبة أول نيسان (أبريل)
س: دق جرس الهاتف، فكانت مكالمة من أحد الأصدقاء، يسوق إلى فيها خبرًا آلمني وأزعجني، ورآني أهلي وأولادي، فأخبرتهم الخبر فاغتموا لغمي، وما هي إلا ساعة زمن، حتى اتصل الصديق نفسه مرة أخرى، ليبلغني أن الخبر لا أساس له . وإنما هي كذبة أول نيسان (أبريل) . فقلت له: إن هذا حرام ولا يجوز لكنه قال: لم يقصد إلا المداعبة والمزاح على عادة الناس في مثل هذه المناسبة.
فما رأيكم في مجاراة مثل هذا التقليد، وتكدير الناس بأخبار غير صحيحة، وإن كان المقصود منها المداعبة ؟ وهل يسوغ مثل هذا العمل شرعًا ؟
جـ: الكذب خلق سيء، ورذيلة من أعظم الرذائل التي يراها الشرع الإسلامي مجافية للإيمان، ويعتبرها إحدى آيات النفاق.
ولم يجز الشرع الكذب إلا في حالات معينة ذكرناها في فتوى سابقة، وليس منها الكذب للمداعبة.
بل حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكذب لإضحاك القوم، فقال: " ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له . . ". (رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي).
وفي حديث آخر: " لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة، والمراء (الجدل) وإن كان صادقًا " (رواه أحمد والطبراني) كما جاء أكثر من حديث نبوي يحذر المسلم من ترويع أخيه وإزعاجه، جادًا أو مازحًا.
وروى أبو داود بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه، ففزع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا ".
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهمًا قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيرة فخفق (نعس) رجل على راحلته، فأخذ رجل سهمًا من كنانته، فانتبه الرجل، ففزع . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا ". (رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات).
وعن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب). واعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الخيانة أن تكذب على من يثق بك، ويصغي إليك بأذنه وقلبه، وأنت تكذب عليه . يقول: " كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو به مصدق وأنت له به كاذب ". رواه أحمد والطبراني عن النواس بن سمعان بإسناد جيد كما قال الحافظ العراقي وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود من حديث سفيان بن أسيد وضعفه ابن عدي).
وبهذا يتبين لنا أن الكذب بهذه الصورة، وبهذه المناسبة خاصة حرام من جهات أربع :
الأولى: حرمة الكذب ذاته، الذي نهى عنه القرآن والسنة.
الثانية: ما وراءه من ترويع إنسان، وإدخال الفزع والكدر عليه ساعة من الزمن، وربما على أسرته معه، بغير مسوغ ولا حاجة.
الثالثة: ما فيه من خيانة لإنسان هو لك مصدق، وأنت له كاذب.
الرابعة: مجاراة عادة سخيفة، وإشاعة تقليد باطل، لم ينبت في أرضنا، ولم ينشأ من بيئتنا . فهو تشبه بغير المسلمين فيما يعد من رذائلهم وسخف أعمالهم.
وكثيرًا ما تتضمن كذبة ذلك اليوم إشاعات قد يضر انتشارها بالمجتمع كله.
والخلاصة أن الكذب حرام في كل يوم، وتزداد حرمته في ذلك اليوم خاصة، لما ذكرنا من اعتبارات، فلا يليق بمسلم المساعدة على ترويج هذا الزور، والله الموفق.


الدجاج المذبوح واللحوم المستوردة من بلاد أجنبية
س: ما حكم أكل الدجاج واللحوم المحفوظة التي تستورد من الخارج ؟
جـ: إن الدجاج واللحوم المحفوظة التي تأتي من الخارج أنواع: منها ما يأتي من عند أهل الكتاب، وهؤلاء قد أباح القرآن أكل طعامهم وذبائحهم، قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم). (المائدة: 5)
ولكن بعض المسلمين يشترطون أن يكون قد عرفوا طريقة الذبح وأنه قد ذكر اسم الله عليه والبعض الآخر يتساهل في ذلك ودليله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله بعضهم فقالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا باللحم، ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: " سموا الله عليه وكلوا ". (رواه البخاري).
وقد أخذ بعض العلماء من هذا قاعدة هي أن ما غاب عنا لا نسأل عنه، فنحن لا نسأل عما غاب عنا . إنما إذا عرفنا الطعام أنه من أهل الكتاب أكلناه وسمينا الله عند الأكل وكفي بهذا.
أما ما يأتي من عند الشيوعيين فهذا أمر آخر، ذلك أن للتذكية شروطًا :
بعض هذه الشروط في موضع الذبح، وبعضها في آلة الذبح وبعضها في الذابح نفسه، فليس كل ذابح تحل ذبيحته، إنما الذي أجازه الشرع هو ذبيحة المسلم أو الكتابي . وبعضهم أدخل من كان له كتاب فرفع، مثل المجوس، وإن كان جمهور الفقهاء لا يجيزون ذبح المجوس أيضًا . وقد ورد فيهم حديث للرسول - صلى الله عليه وسلم -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ".
الفقرة الأخيرة من الحديث: " غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " جاءت بسند ضعيف، لهذا لم يأخذ بها أبو ثور وابن حزم وغيرهما، فأجازوا أن يأكل المسلم ذبيحة الكتابي ومن كان عنده شبهة كتاب كالمجوسي.
والذي نؤكده أنه لا يجوز ذبيحة أي ذابح، إنما يشترط في الذابح أن يكون مسلمًا أو مؤمنًا بكتاب سماوي، ذلك أن الذبح هو إزهاق لروح خلقها الله عز وجل وهذا الإزهاق، ليس مأذونا به من قبل الله إلا لمن آمن به، وآمن بأن له وحيًا، وآمن بأن هناك آخره . وذلك هو المسلم والكتابي.
أما الذي ينكر الله ويجحد رسالاته ولا يعترف لله بسلطان أي سلطان فهذا لم يعطه الله الحق أن يذبح مخلوقًا أو كائنًا حيًا، أو يزهق روح حيوان ما، ليس له هاذ الحق، وليس عنده هذا الإذن.
ولهذا حين يذبح المسلم يقول: باسم الله والله أكبر.
أي أنني أذبح وأزهق الروح مأذونًا من الله، عندي تصريح إلهي بإزهاق هذه الروح . وهذا الكائن الحي أقتله باسم الله . أما الذي لا يعترف بالله إطلاقًا فكيف يباح له هذا، وكيف يمنح هذا الحق، وكيف يعطي هذه الرخصة ؟ ولم يعطه الله ذلك . ولهذا فالمرتد والملحد، الذي لا يؤمن بالله ولا برسالاته ولا بأي دين سماوي ولا بأي كتاب أنزله الله، ولا بأي نبي مرسل من الله، كالشيوعي، هذا لا تحل ذبيحته بالإجماع.
ومن هنا لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا هذا الدجاج واللحوم التي ترد من عند الشيوعيين، فهي قد ذبحها قوم ينكرون الله عز وجل.
الأصل فيها ذلك . قد يوجد هناك مسلمون، أو نصارى، إنما الأصل، أن هذا المجتمع، مجتمع قائم على حرب الدين، وعلى حرب الله، وعلى إنكار الوحي وإنكار الأديان، وعلى اعتبار الأديان مخربة ومعوقة ومخدرة للشعوب، لهذا ينبغي لأهل الأديان عامة، وينبغي للمسلمين خاصة أن يردوا لهم ذبائحهم ويقولوا لهم: ليس من حقكم أن تذبحوا ولا أن تقتلوا هذه الأرواح، ولا هذه الكائنات الحية، فلم يعطكم الله هذا الحق.
هذا ما أفتى به وأنا مطمئن في هذا الجانب.
فلا يجوز للباعة والتجار المسلمين أن يستوردوا هذه الأنواع من اللحوم والدجاج وكذلك للمستهلكين، لا يجوز لهم أن يستهلكوها وينتفعوا بها . وبالله التوفيق.


تحريم الخمر من قطعيات الدين
س 1: قرأت في إحدى الصحف الكويتية مقالاً لكاتب يهاجم فيه قانون تحريم الخمر الذي نعده مفخرة لحكومة الكويت وبرلمانها ويقول الكاتب: إن الله نهى في كتابه عن الخمر ولكنه لم يحرمها، والعجيب أن أحد الحاضرين أيّد هذا الكلام، وطالبني بنص صريح من القرآن يقول: إن الخمر حرام، فلما لم يسعفني حفظي للقرآن ذكرت له بعض الأحاديث التي فيها لعن الخمر وشاربها وعاصرها وحاملها . . الخ، فقال صاحبي: أنا أريد نصًا من القرآن لا من الحديث . فهل صحيح أن القرآن لم يحرم الخمر ؟ وما حكم من يزعم ذلك ؟
جـ 1: قلت في مثل هذا الموضوع في فتوى سابقة:
إن من أعظم الفتن تحويل الأمور القاطعة إلى أمور محتملة، وجعل الأمور المجمع عليها أمورًا مختلفًا فيها، وهذا يصدق على تحريم الخمر الذي أجمعت عليه الأمة الإسلامية جيلاً بعد جيل . وأصبح معلومًا من دين الإسلام بالضرورة، بحيث لا يحتاج إلى مناقشة ولا دليل كوجوب الصلاة والزكاة، وكحرمة الزنا والربا.
ومن الخطر أن ننقاد غافلين للهدامين الذين يريدون أن يجعلوا كل شيء في الدين - حتى الأصول والضروريات - محل بحث وجدال، وقيل وقال، وقد أجمع العلماء على أن من أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، ولم يكن حديث عهد بالإسلام ولا ناشئًا ببادية أو ببلد بعيد عن دار الإسلام: فإنه يكفر بذلك ويمرق من الدين، وعلى الإمام أن يطلب منه التوبة والإقلاع عن ضلاله، وإلا طبقت عليه أحكام المرتدين ..
وأما حديث عهد بالإسلام والناشئ بالبادية ونحوها، فيعرف الحكم ويبين له الصواب فإن أصر على موقفه عُد مرتدًا.
ومع وضوح حرمة الخمر، ومعرفتها من الدين بالضرورة كما ذكرت، أتطوع بالجواب فأقول :
إن حرمة الخمر ثابتة من عدة وجوه:
أولا: من القرآن الكريم :
فقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون).
ففي هاتين الآيتين تأكيد لتحريم الخمر بأكثر من وجه :
( أ ) وذلك لأنه قرنها بالأنصاب - وهي الأصنام - والأزلام، وقد قال تعالى عن الأزلام (ذلكم فسق) قال ابن عباس: لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهم إلى بعض، وقالوا: وحرمت الخمر وجعلت عدلاً، أي معادلة للشرك . رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وإنما أخذوا هذا من اقترانها بالأنصاب، وجاء في الحديث " مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن " رواه أحمد.
( ب ) ثم أخبر عن هذه الأشياء بأنها رجس، وهذا لفظ لم يطلق في القرآن إلا على الأوثان ولحم الخنزير وهو يدل على التنفير والزجر الشديد.
( ج ) ولم يكتف بذلك، فجعلها من " عمل الشيطان" وعمل الشيطان إنما هو الشر والفحشاء والمنكر . قال تعالى: (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر).
( د ) وعقب على ذلك بقوله (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والأمر بالاجتناب هو العبارة التي استخدمها القرآن في الزجر عن الأوثان وعبادتها فقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)، (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . . .) كما استخدمها في ترك كبائر الذنوب والآثام . مثل قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم).
(هـ) ثم رتب على هذا الاجتناب الفلاح بقوله (لعلكم تفلحون) فدل على أن هذا الاجتناب واجب مؤكد، فإن تحصيل أسباب الفلاح واجب لازم.
( و ) ثم علل الأمر بالاجتناب ببيان بعض مضار الخمر والميسر الاجتماعية والدينية من تقطيع الأواصر والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ثم ذيّل الآية بقوله: (فهل أنتم منتهون)، ولهذا حين سمعها المؤمنون قالوا: قد انتهينا يا رب، قد انتهينا يا رب.
فهاتان الآيتان، كما نرى - دالتان أبلغ الدلالة على تحريم الخمر، والزجر عنها، وإنما أتي الذين ناقشوا في ذلك من جهلهم باللغة والشرع معًا، وزعمهم أن التحريم لا يستفاد إلا من لفظ " حرم " و" يحرم " وهذا جهل مركب، فإن التحريم - بإجماع العلماء - تدل عليه ألفاظ كثيرة، مثل: لعن فاعله، أو تشبيهه بالشيطان، أو الإخبار بأنه رجس . . . إلخ.
وما قول هؤلاء المجادلين في القتل والزنى والسرقة وأكل الربا وأكل مال اليتيم ونحوها مما لا يجادلون هم ولا غيرهم في قطيعة حرمته، ومع هذا لم ينه عن شيء منها في القرآن بلفظ " التحريم " ؟!
على أننا نقول لهؤلاء المكابرين :
إن القرآن الكريم نص على تحريم الخمر بلفظ التحريم أيضا، وذلك أن الله تعالى قال في سورة الأعراف (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق . . . الآية) فالإثم حرام بنص الآية، ثم قال تعالى قي سورة البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فإذا كان الإثم حرامًا وكان في الخمر إثم كبير بنص القرآن فهي حرام بلا شك.
ثانيًا: من السنة :
روى الشيخان عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام " وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فقال: " يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وشاربها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها، وساقيها ومسقاها " والأحاديث في ذلك كثيرة موفورة.
ومن زعم أنه لا يقبل الاحتجاج بالسنة فقد كذب القرآن نفسه، الذي صرح بأن الرسول هو مبين القرآن وشارحه قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ولو رد الناس السنة اكتفاء بالقرآن ما عرفوا صلاة ولا زكاة ولا حجًا فإنها كلها جاءت مجملة في القرآن وإنما بينتها السنة.
وقد قال رجل لمطرف بن عبد الله أحد التابعين: لا تحدثونا إلا بالقرآن . فقال له مطرف: " والله ما نريد بالقرآن بدلاً . . . ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا "
يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن هنا أمر القرآن بطاعة الرسول، والاحتكام إليه، مقارنًا للأمر بطاعة الله، قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
ثالثا: الإجماع:
هذا إلى أن علماء الإسلام في سائر الأعصار قد أجمعوا على تحريم الخمر، إجماعًا مؤكدًا لا شك فيه ولا جدال، حتى أصبح ذلك معلومًا من الدين بالضرورة، كما قلنا في مطلع حديثنًا.
رابعًا: قواعد الشريعة الكلية :
على أنه لو لم يكن هناك نص ولا إجماع في المسألة لكانت قواعد الشريعة العامة، ومبادئها الكلية كافية في الدلالة على تحريم الخمر، فإن التحريم في الإسلام يتبع الخبث والضرر، فما تحقق ضرره بالفرد أو بالجماعة كان حرامًا، ولو لم يرد فيه نص بخصوصه.
وضرر الخمر على الفرد في دينه وجسمه وعقله ونفسه وماله مما لا ريب فيه، وكذلك ضررها على الأسرة في تماسكها وترابطها حيث نرى السكيرين لا يقدرون مسئوليتهم عن زوجاتهم وأولادهم، فيهملون رعايتهم وتربيتهم بل النفقة عليهم، ومن وراء ذلك كله ضرر المجتمع كله بانتشار العربدة، وفساد الأخلاق وخراب البيوت، وضياع الأموال، وانتشار الأمراض مما يؤدي في النهاية إلى التفسخ والانحلال العام، فأي إنسان له مسحة من عقل أو دين يبيح هذا الفساد العريض الذي تسببه أم الخبائث، ومفتاح الشر ؟ وأعجب من ذلك أن تقرن هذه الإباحة أو ال*****ة بشريعة الإسلام ؟


شرب البيرة
س: ما حكم شرب " البيرة " في الإسلام ؟ وإذا كانت البيرة حرامًا فلماذا تباع علنًا في المقاهي والبرادات ؟ علمًا بأن البيرة التي تباع الآن والمكتوب عليها " بدون كحول " أثبت تحليل أحد الخبراء لها أن بها نسبة من الكحول تقدر بـ(5 ,3%).
ج: أما الشراب الذي يطلق عليه اسم " البيرة " فليس من مهمتي ولا مهمة أهل الفتوى أن يحللوا كل مشروب إلى عناصره الأولية، ويعرفوا ماذا يشتمل عليه.
وكل ما أستطيع أن أقوله هنا: إن الجمعية الدولية لمنع المسكرات قد أدخلت البيرة ضمن الأشربة الممنوعة التي تحاربها.
وعلى كل حال فإن القاعدة الشرعية: أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى قال: " يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع هو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد " قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، فقال: كل مسكر حرام " رواه أحمد والشيخان.
وعن جابر بن عبد الله أن رجلاً من جيشان - وجيشان من اليمن - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر يقال له: المزر، فقال: أمسكر هو ؟ قال: نعم فقال: كل مسكر حرام.
" إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال ؟ قال: " عرق أهل النار، وعصارة أهل النار " . رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وإذا كان التحريم مبنيًا على الإسكار، فإن المادة الفعالة في الإسكار هي " الكحول " كما قرر أهل الخبرة والتحليل.
فإذا ثبت أن نوعًا من البيرة خال من الكحول، واطمأن لذلك قلب المسلم فلا بأس بشربه وإذا ثبت له أن بها قدرًا من الكحول - ولو ضئيلاً - بحيث يسكر الكثير منها فهي حرام.
وإن شك في ذلك فليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
ولا يخدعن المسلم عن دينه أن هذه المشروبات لا تسمى خمرًا، فإنه لا عبرة بالأسماء متى وضحت المسميات.
روى أحمد وأبو داود عن أبي مالك الأشعري: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليشربن أناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير إسمها ".
وروى النسائي بسنده عن رجل من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يشرب ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها ".
وأود أن أقول للأخ السائل: إن في عصير الفواكه المتنوعة وألوان المياه الغازية المختلفة التي تغمر الأسواق ما يغني عن هذه البيرة المشبوهة، ومن فضل الله على عباده أن يسر لهم من ألوان الحلال الطيب ما يغني عن المحرمات والمشتبهات.


هل للخمر منافع وما هي ؟
س: ذكر الله عز وجل أن في الخمر منافع، فما هي ؟ وما مضارها ؟ ومتى حرمت الخمر ؟
ج: الله تعالى يقول: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما اكبر من نفعهما). (البقرة: 219).
فالخمر بنص القرآن فيها إثم كبير، وفيها بعض المنافع
والمقصود بالمنافع التي في الخمر هي المنافع الاقتصادية . . من ناحية التجارة ومن ناحية الإنتاج: في بعض البلاد، يزرعون العنب والكروم من أجل بيعها عصير خمر ويكسبون من ورائها الملايين . ..
وهذه المنافع هي التي يسوغ كثير من الناس اليوم بها تجارة الخمر . . ويزعمون أنها تجتذب السائحين، فيكسبون من ورائهم عملات صعبة . . وهذا شيء مهم . ولكن الشرع الحنيف أهدر هذه المنافع ولم يقم لها اعتبارًا في مقابلة الإثم الكبير والأضرار العظيمة التي في الخمر . . أضرارها على الفرد، وأضرارها على الأسرة وأضرارها على المجتمع ".
أضرارها على الفرد جسميًا، وعقليًا ونفسيًا، وقد كتب في ذلك كثير من الأطباء ومن الغريب حقًا أن يفعل الإنسان باختياره ما يسلبه عقله، ويجعله يهرف (ويهذي) ويخوض في أودية الأوهام وما يسلبه أيضًا إرادته، حيث يصبح عبدًا للكأس وأسيرًا لها، ومدمنًا عليها . . كما قال الشاعر قديمًا.
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
وما تسلبه كذلك صحته بالتدريج، حتى يصبح جسمه وكرًا لعدة أسقام.
فهذا الإدمان داء من الناحية النفسية والعصبية والبدنية ومن ناحية خطر الخمر على الأسرة . . حيث يترك السكير أهله وأولاده وهم محتاجون إلى القوت، ويشتري بنقوده ذلك الشراب المسكر الضار الخبيث، الذي يسحب الرجل من بيته، ليلقي به في الحانات والأزقة المظلمة بدلاً من أن يؤنس أسرته، ويشرف على تربية أولاده، ويزور أرحامه وأصدقائه ويعمل ما ينفعه في أمر دينه ودنياه.
وبهذا تصبح الأمة أمة من السكارى لا قيمة لها، لا تثبت في معركة، ولا تصمد أمام عدو ولا تقوم بها نهضة، أو ترتفع لها راية . . فضرر الخمر على الأفراد، وعلى الأسر والجماعات ضرر لا شك فيه والقاعدة الإسلامية المستفادة من هذه الآية الكريمة :
أن كل شيء كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام.
الإسلام، إنما يشرع ما كانت منفعته خالصة، أو كانت راجحة . أي نفعه أكبر من ضرره ويحرم ما كانت مضرته خالصة أو كانت راجحة.
أما متى حرمت الخمر، فنحن نعلم أن الخمر حرمت بالتدريج.
فأول ما نزل بشأنه قوله تعالى في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر . .) الآية . ثم قوله في سورة النساء: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى).
ثم جاء التحريم القاطع في سورة المائدة وهو (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟). (المائدة: 9).
وهنا قال عمر رضي الله عنه: قد انتهينا يا رب.
وسورة المائدة التي تشتمل على هذه الآية قالوا إنها من أواخر ما نزل من القرآن الكريم . . . ولعلها نزلت في السنة التاسعة، أو نحو ذلك . . أي في أواخر العهد المدني.


أحكام التدخين في ضوء النصوص والقواعد الشرعية
س: أرجو من فضيلتكم الإفتاء بالنسبة للتدخين . . هل هو حلال أم حرام ؟ وذلك بالنظر إلى النقط الموضحة بعد.
1- في كتاب " الحلال والحرام " أفتيتم بأن التدخين حرام مستندًا إلى أنه قد ثبت ضرره (الطبعة الأخيرة).
2- في حلقة تليفزيونية أخبرتنا أن التدخين حرام أو مكروه كراهة التحريم.
3- في تقرير لكلية الأطباء الملكية البريطانية قالوا فيه (أقلعوا عن التدخين وإلا عاجلتكم المنية) ..
4- بلغنا أنه قد أفتى بعض كبار علماء الدين بأن التدخين بين حرام ومكروه، ومسموح به.
( أ ) فهو حرام في حالة عدم قدرة المدخن على تحمل مصاريف التدخين.
( ب ) ومكروه للقادر عليه.
( ج ) ومسموح به إذا كان هناك راحة نفسية للمريض من التدخين.
5- نرى كثيرين من علماء ورجال الدين يدخنون.
ملحوظة: من أضرار التدخين التي أعلنت عنها (كلية الأطباء الملكية البريطانية) :
(1) 27500 بريطاني يفتك بهم التدخين سنويًا، وتتراوح أعمارهم بين 34-65.
(2) 155 ألف بريطاني سيموتون سنويًا بسرطان الرئة خلال الثمانينات.
(3) 90% من حالات الوفاة بسرطان الرئة تحدث نتيجة التدخين.
(4) الأسباب الرئيسية لحدوث الوفاة بين المدخنين: الإصابة بسرطان الرئة - النزلات الشعبية - تليف الكبد - أمراض الشريان التاجي - الذبحة الصدرية - سرطان الفم: البلعوم والحنجرة - الأطفال الذين تلدهم نساء يدخن يولدون أقل من الوزن الطبيعي - والأمهات أكثر عرضة للسقط.
كما أعلن في مجلة Lancet لانست البريطانية، وهي مجلة طبية محترمة أن التدخين مرض وليس عادة وآفة يمارسه أغلب أفراد العائلة، أو أنه عادة يؤدي إلى امتهان الفرد لكرامته، وأن عدد المتوفين نتيجة التدخين أضعاف وفيات وحوادث السيارات، وينصح الطبيب الذي يدخن بأنه غير أمين على مهنته.
لعلنا نحصل على رأى قاطع بالأسانيد القرآنية والمحمدية حتى لا يكون هنا مجال للنقاش وخصوصًا أن ضرره قد ثبت بتقرير أكبر هيئة طبية محترمة في العالم (150 صفحة)
ولك مني ألف تحية، ووفقكم الله دائمًا..
دكتور ف . حـ - الدوحة
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آلة وصحبة ومن نهج نهجه (وبعد)
ظهر هذا النبات المعروف الذي يطلق عليه اسم " الدخان " أو (التبغ) أو (التمباك) أو (التتن)، في آخر القرن العاشر الهجري، وبدأ استعماله يشيع بين الناس، مما أوجب على علماء ذلك العصر أن يتكلموا في بيان حكمه الشرعي.
ونظرًا لحداثته وعدم وجود حكم سابق فيه للفقهاء المجتهدين، ولا من بعدهم من أهل التخريج والترجيح في المذاهب، وعدم تصورهم لحقيقته ونتائجه تصورًا كاملا، مبنيًا على دراسة علمية صحيحة، اختلفوا فيه اختلافًا بينًا.
فمنهم من ذهب إلى حرمته.
ومنهم من أفتى بكراهته.
ومنهم من قال بإباحته.
ومنهم من لم يطلق حكمًا بل ذهب إلى التفصيل.
ومنهم من توقف فيه وسكت عن البحث عنه. (انظر: مطالب أولى النهي شرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج 6 ص 218).
وكل أهل مذهب من المذاهب الأربعة فيهم من حرمه، وفيهم من كرهه، وفيهم من أباحه.
ولهذا لا نستطيع أن ننسب إلى مذهب القول بإباحة أو تحريم أو كراهة.
أدلة المحرمين :
أما المحرمون فاستندوا إلى عدة اعتبارات شرعية يجمع شتاتها ما يلي :
1- الإسكار :
فمنهم من قال إنه مسكر، وكل مسكر حرام، والمراد بالمسكر في قولهم: مطلق المغطي للعقل، وإن لم يكن معه الشدة المطربة . قالوا: ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة.
وبعضهم قال: معلوم أن كل من شرب دخانًا كائنًا ما كان أسكره، بمعنى أشرقه، وأذهب عقله بتضييق أنفاسه ومسامه عليه، فالإسكار من هذه الحيثية لا سكر اللذة والطرب. (الفواكه العديدة في المسائل المفيدة . الشهير بمجموع المنقور ج 2).
ورتب بعضهم على هذا عدم جواز إمامه من يشربه.
2- التفتير والتخدير:
وقالوا: إن لم يسلم أنه يسكر، فهو يخدر ويفتر . وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن كل مسكر ومفتر ". (رمز له السيوطي في الجامع الصغير بعلامة الصحة وأقره المناوي في فيض القدير).
قالوا: والمفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف . وحسبك بهذا الحديث دليلاً على تحريمه.
3- الضرر :
والضرر الذي ذكروه هنا ينقسم إلى نوعين :
( أ ) ضرر بدني: حيث يضعف القوي، ويغير لون الوجه بالصفرة، والإصابة بالسعال الشديد، الذي قد يؤدي إلى مرض السل.
ومن سديد ما قاله بعض العلماء هنا: أنه لا فرق في حرمة المضر بين أن يكون ضرره دفعيًّا (أي يأتي دفعة واحدة) وأن يكون تدريجيًا، فإن التدريجي هو الأكثر وقوعًا.
( ب ) ضرر مالي: ونعني به أن في التدخين تبذيرًا للمال، أي إنفاقه فيما لا يفيد الجسم ولا الروح، ولا ينفع في الدنيا ولا الآخرة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال . وقال الله تعالي: (ولا تبذر تبذيرًا . إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا). (الإسراء: 27).
وقال أحد العلماء :
لو اعترف شخص أنه لا يجد فيه نفعًا بوجه من الوجوه، فينبغي أن يحرم عليه، لا من حيث الاستعمال . بل من حيث إضاعة المال، إذ لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر فيما مضى: شيخ الإسلام أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية إبراهيم اللقاني . ومن علماء المغرب: أبو الغيث القشاش المالكي . ومن علماء دمشق: نجم الذين بن بدر الدين ابن مفسر القرآن، العربي الغزي العامري الشافعي . ومن علماء اليمن: إبراهيم بن جمعان، وتلميذه أبو بكر بن الأهدل.
ومن علماء الحرمين: المحقق عبد الملك العصامي، وتلميذه محمد بن علامة، والسيد عمر البصري . وفي الديار الرومية (التركية) الشيخ الأعظم محمد الخواجه، وعيسى الشهواي الحنفي، ومكي بن فرو المكي، والسيد سعد البلخي المدني.
كل هؤلاء من علماء الأمة أفتوا بتحريمه ونهوا عن تعاطيه. (انظر الفواكه العديدة ج 2 ص 80-87).
مستند القائلين بالكراهة :
أما القائلون بكراهته، فقد استندوا إلى ما يأتي :
( أ ) أنه لا يخلو من نوع ضرر، ولا سيما الإكثار منه . مع أن القليل يجر إلى الكثير.
( ب ) النقص في المال، فإذا لم يكن تبذيرًا ولا إسرافًا ولا إضاعة . فهو نقص في المال، كان يمكن إنفاقه فيما هو خير منه وأنفع لصاحبه والناس.
( ج ) نتن رائحته التي تزعج كل من لم يألفها وتؤذيه، وكل ما كان كذلك فتناوله مكروه كأكل البصل النيئ والثوم والكرّات ونحوها.
( د ) إخلاله بالمروءة بالنسبة لأهل الفضائل والكمالات.
(هـ) يشغل عن أداء العبادة على الوجه الأكمل.
( و ) ومن اعتاده قد يعجز في بعض الأيام عن تحصيله فيتشوش خاطره لفقده.
( ز ) ومثل ذلك إذا كان في مجلس لا ينبغي استعماله فيه، أو يستحي ممن حضر.
وقال الشيخ أبو سهل محمد بن الواعظ الحنفي :
الذي تفيده الأدلة كراهته قطعًا، وحرمته ظنًا، وكراهته لا يتوقف فيه إلا مخذول مكابر، لقاطع الحق معاند، فكل منتن مكروه كالبصل . وهذا الدخان الخبيث أولى، ومنع شاربه من دخول المسجد ومن حضوره المجامع أولى.
مستند القائلين بالإباحة:
وأما القائلون بالإباحة فتمسكوا بأنها الأصل في الأشياء، ودعوى أنه يسكر أو يخدر غير صحيحة ؛ لأن الإسكار غيبوبة العقل مع حركة الأعضاء، والتخدير غيبوبة العقل مع فتور الأعضاء، وكلاهما لا يحصل لشاربه . نعم، من لم يعتده يحصل له إذا شربه نوع غثيان، وهذا لا يوجب التحريم.
ودعوى أنه إسراف فهذا غير خاص بالدخان. (انظر: رد المختار "حاشية ابن عابدين" ج 5 ص 326).
هذا ما ذهب إليه العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي.
وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحباني شارح " غاية المنتهى " في فقه الحنابلة :
" كل عالم محقق له اطلاع على أصول الدين وفروعه، إذا خلا من الميل مع الهوى النفساني، وسئل الآن عن شربه بعد اشتهاره، ومعرفة الناس به، وبطلان دعوى المدلين فيه بإضراره للعقل والبدن لا يجيب إلا بإباحته، لأن الأصل في الأشياء التي لا ضرر فيها ولا نص تحريم: الحل والإباحة، حتى يرد الشرع بالتحريم . . واتفق المحققون على أن تحكم العقل والرأي بلا مستند شرعي باطل ". (انظر رد المختار (حاشية ابن عابدين) ج 5 ص 36).
وهذا ما قاله الشيخ بناء على ما تبين له في زمنه . ولو عرف ما ظهر من ضرره اليوم لغيّر رأيه يقينًا.
القائلون بالتفصيل :
وأما القائلون بالتفصيل فقالوا :
إن هذا النبات في حد ذاته طاهر غير مسكر ولا مضر ولا مستقذر، فالأصل إباحته، ثم تجري فيه الأحكام الشرعية :
فمن لم يحصل له ضرر باستعماله في بدنه أو عقله، فهو جائز له.
ومن ضره حرم عليه استعماله كمن يضر به استعمال العسل.
ومن نفعه في دفع مضر كمرض، وجب عليه استعماله.
وثبوت هذه الأحكام بموجب العارض، ويكون في حد ذاته مباحًا كما لا يخفى.
أقوال المعاصرين :
وإذا غضضنا الطرف عن المتقدمين، ونظرنا إلى أقوال المعاصرين، وجدناهم أيضًا مختلفين في إصدار حكم بشأنه.
فمنهم - كالشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق - الذي تبنى رأي بعض من سبق من العلماء، أن الأصل فيه الإباحة، وتعرض له الحرمة أو الكراهة بمقتضى، كأن يحصل منه ضرر كثير أو قليل، في النفس أو في المال أو فيهما، أو يؤدي إلى مفسدة، وضياع حق، كحرمان زوجته أو أولاده، أو من يحق عليه نفقتهم شرعًا من القوت بسبب إنفاق ماله في شرائه، فإذا تحقق شيء من هذه العوارض حكم بكراهته أو حرمته على حسب ضعفها أو قوتها، وإذا خلا منها وأشباهها كان حلالاً. (انظر: فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف ج 2 ص 112 - 113).
ومنهم من جزم بحرمته، وألّف فيه بعض الرسائل، وعامة علماء نجد يحرمونه، وخصوصًا إذا تعاطاه عالم من علماء الدين، وقد قال العلامة الشيخ محمد بن مانع كبير علماء قطر ومدير معارف السعودية في عصره - قال في حاشية له على " غاية المنتهي ج 2 ص 332 :
" إن القول بإباحة الدخان . ضرب من الهذيان، فلا يعول عليه الإنسان، لضرره الملموس، وتحذيره المحسوس، ورائحته الكريهة، وبذل المال فيما لا فائدة فيه، فلا تغتر بأقوال المبيحين . فكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولعل من أعدل ما قيل فيه وأصحه استدلالاً، ما ذكره المغفور له الشيخ الأكبر محمود شلتوت شيخ الأزهر في فتاويه حين قال: (مما يذكر هنا أن الشيخ رحمه الله كان مبتلى بالتدخين حيث اعتاده من عهد الشباب ولم يستطع التحرر من سلطانه . ولكنه لإنصافه رجح القول بالتحريم إعمالاً لعلل الأحكام وقواعد التشريع العامة).:
" إذا كان التبغ لا يحدث سكرًا، ولا يفسد عقلاً، فإن له آثارًا ضاره . يحسها شاربه في صحته، ويحسها فيه غير شاربه . وقد حلل الأطباء عناصره، وعرفوا فيها العنصر السام الذي يقضي - وإن كان ببطء - على سعادة الإنسان وهنائه . وإذن فهو ولاشك، أذي وضار . والإيذاء والضرر خبث يحظر به الشيء في نظر الإسلام.
وإذا نظرنا مع هذا إلى ما ينفق فيه من أموال، كثيرًا ما يكون شاربه في حاجة إليها، أو يكون صرفها في غيره أنفع وأجدى.
وإذا نظرنا إلى هذا الجانب عرفنا له جهة مالية تقضي في نظر الشريعة بحظره وعدم إباحته.
ومن هنا نعلم أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال . أنه مما يمقته الشرع ويكرهه . وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء . فلعلل الأحكام، وقواعد التشريع العامة، قيمتها في معرفة الأحكام، وبهذه العلل وتلك القواعد، كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه من حل أو حرمة . وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الحظر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرًا من العلاج ". (الفتاوى للشيخ شلتوت ص 354 طـ . مطبعة الأزهر). ا هـ.
تمحيص وترجيح:
ويبدو لي أن الخلاف الذي نقلناه عن علماء المذاهب عند ظهور الدخان، وشيوع تعاطيه، واختلافهم في إصدار حكم شرعي في استعماله، ليس منشأه في الغالب اختلاف الأدلة، بل الاختلاف في تحقيق المناط.
أعني أنهم متفقون على أن ما يثبت ضرره على البدن أو العقل يحرم تعاطيه.
ولكنهم يختلفون في تطبيق هذا الحكم على الدخان.
فمنهم من أثبت له عدة منافع في زعمه . ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافع موازية لها . ومنهم من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر . وهكذا.
ومعنى هذا: أنهم لو تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرموه بلا جدال . وهنا نقول: إن إثبات الضرر البدني أو نفيه في " الدخان " ومثله مما يتعاطى ليس من شأن علماء الفقه، بل من شأن علماء الطب والتحليل . فهم الذين يسألون هنا، لأنهم أهل العلم والخبرة . قال تعالى: (فاسأل به خبيرًا) (الفرقان: 59) .وقال: (ولاينبئك مثل خبير). (فاطر: 14).
أما علماء الطب والتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين الضارة على البدن بوجه عام وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص . وما يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعل العالم كله في السنوات الأخيرة ينادي بوجوب التحذير من التدخين.
على أن من أضرار التدخين ما لا يحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس، من مثقفين وأميين.
وينبغي أن نذكر هنا ما نقلناه من قبل عن بعض العلماء، وهو أن الضرر التدريجي كالضرر الدفعي الفوري، كلاهما مقتض للتحريم . ولهذا كان تناول السم السريع التأثير في الصدر والسم البطيء التأثير حرامًا بلا ريب.
وعلى هذا القول: إن اختلاف علماء الفتوى في التحريم والإباحة في نبات الدخان إنما هو بناء على ما ثبت لدى كل منهم من الإضرار أو عدمه.
أما ما يقوله بعض الناس: كيف تحرمون مثل هذا النبات بلا نص ؟
فالجواب: أنه ليس من الضروري أن ينص الشارع على كل فرد من المحرمات، ويبغي أن يضع ضوابط أو قواعد تندرج تحتها جزئيات شتى، وأفراد كثيرة . فإن القواعد يمكن حصرها، أما الأفراد فلا يمكن حصرها.
ويكفي أن يحرم الشارع الخبيث أو الضار، ليدخل تحته ما لا يحصى من المطعومات والمشروبات الخبيثة أو الضارة، ولهذا أجمع العلماء على تحريم الحشيشة ونحوها من ال******، مع عدم وجود نص معين بتحريمها على الخصوص.
وهذا الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري، نراه متمسكًا بحرفيه النصوص وظواهرها، ومع هذا يقرر تحريم ما يُستضر بأكله، أخذا من عموم النصوص قال: وأما كل ما أضر فهو حرام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. فمن أضر بنفسه أو بغيره فلم يحسن، ومن لم يحسن فقد خالف كتاب (أي كتابة) الله الإحسانَ على كل شيء ". (انظر: المحلى ج 7 ص 504-505، المسألة 1030 طـ . الإمام).
ويمكن أن يستدل لهذا الحكم أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار " . كما يمكن الاستدلال بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا). (النساء: 29).
ومن أجود العبارات الفقهية في تحريم تناول المضرات عبارة الإمام النووي في روضته قال :
" كل ما أضر أكله كالزجاج والحجر والسم، يحرم أكله . وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل، إلا المستقذرات الطاهرات، كالمني والمخاط . فإنها حرام على الصحيح . . إلى أن قال: ويجوز شرب دواء فيه قليل سم إذا كان الغالب السلامة واحتيج إليه.
ومن الناس من يتمسك هنا بقاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما نص الشرع على تحريمه.
والرد على هؤلاء أن من علماء الأصول من عكس ذلك فقال: الأصل في الأشياء الحظر إلا ما جاء الشرع بإباحته.
والصحيح من قول هؤلاء وهؤلاء التفصيل . فالأصل في المنافع الإباحة، لقوله تعالى في معرض الامتنان على عباده: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29). ولا يمتن عليهم بما هو محرم عليهم.
وأما المضار، وهي: ما يؤذي البدن أو النفس أو هما معًا . فالأصل فيها الحظر والتحريم.
على أن في " التدخين " نوعًا من الضرر يجب ألا يغفل، وهو ضرر يقيني لا شك فيه، وهو الضرر المالي . وأعني به إنفاق المال فيما لا ينفع بحال، لا في الدنيا ولا في الدين، ولا سيما مع غلاء أثمانه، وإسراف بعض هواته في تناوله، حتى إن أحدهم قد ينفق فيه ما يكفي لإعاشة أسرة كاملة.
أما ما يجده بعض الناس من راحة نفسية في التدخين، فليس منفعة ذاتية فيه، وإنما ذلك لاعتياده عليه وإدمانه له فهو لهذا يرتاح لاستعماله . شأن كل ما يعتاد الإنسان تعاطيه مهما كان مؤذيًا وضارًا غاية الضرر.
وقد قال الإمام ابن حزم في " محلاه " (المحلى: ج 7 ص 503، مسألة 1027) : السرف حرام . وهو:
1- النفقة فيما حرم الله تعالى، قلت أو كثرت، ولو أنها جزء من قدر جناح بعوضة.
2- أو التبذير فيما لا يحتاج إليه ضرورة، مما لا يبقى للمنفق بعده غنى.
3- أو إضاعة المال وإن قل برميه عبثًا...
قال الله تعالى: (ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) ا هـ . ولا يخفى أن إنفاق المال في التدخين إضاعة له.
وقد أعجبني مما نقلته من قبل قول أحد العلماء: لو اعترف شخص أنه لا يجد في التدخين نفعًا بوجه من الوجود، فينبغي أن يحرم عليه . من حيث أنه إضاعة للمال . إذا لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.
فكيف إذا كان مع الإتلاف للمال ضرر يقينا أو ظنًا ؟ . أي أنه اجتمع عليه إتلاف المال وإتلاف البدن معًا.
فواعجبًا لمن يشتري ضرر بدنه بحُرِّ ماله طائعًا مختارًا.
وهناك ضرر آخر، يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي، وأقصد به، أن الاعتياد على التدخين وأمثاله، يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة . بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يومًا لسبب ما . كظهور ضررها على بدنه، أو سوء أثرها في تربية ولده، أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم، أو نحو ذلك من الأسباب.
ونظرًا لهذا الاستعباد النفسي، نرى بعض المدخنين، يجور على قوت أولاده، والضروري من نفقة أسرته، من أجل إرضاء مزاجه هذا، لأنه لم يعد قادرًا على التحرر منه.
وإذا عجز مثل هذا يومًا عن التدخين، لمانع داخلي أو خارجي، فإن حياته تضطرب، وميزانه يختل، وحاله تسوء، وفكرة يتشوش، وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب.
ولا ريب أن مثلي هذا الضرر جدير بالاعتبار في إصدار حكم على التدخين.
ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه: أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له، بل هو غلط صريح، وغفلة عن جوانب الموضوع كله، ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال بما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية، وما فيه من ضرر بعضه محقق، وبعضه مظنون أو محتمل.
وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى، عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة، بحيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره، فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره، وسيّئ آثاره، وعلم بها الخاص والعام، وأيدتها لغة الأرقام.
وحسبنا ما جاء في السؤال من إحصاءات، تضمنها تقرير أكبر هيئة طبية محترمة في العالم وإذا سقط القول بالإباحة المطلقة . لم يبق إلا القول بالكراهة أو القول بالتحريم.
وقد اتضح لنا مما سبق أن القول بالتحريم أوجه وأقوي حجة . وهذا هو رأينا . وذلك لتحقق الضرر البدني والمالي والنفسي باعتياد التدخين.
وإذا قيل لمجرد الكراهة، فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم ؟ الظاهر الثاني.
نظرا لقوة الاعتبارات والأدلة التي أدت إلى القول بالتحريم فمن أنزل الحكم عن الحرام لم ينزل عن درجة المكروه التحريمي.
ومهما يكن فمن المقرر أن الإصرار على الصغائر يقربها من الكبائر . ولهذا أخشى أن يكون الإصرار على المكروه مقربًا من الحرام.
على أن هناك ملابسات واعتبارات تختص ببعض الناس دون بعض، تؤكد الحرمة وتغلظها كما تؤكد الكراهة عند من قال بالكراهية، بل تنقلها إلى درجة التحريم.
وذلك مثل أن يضر الدخان شخصًا بعينه، حسب وصف طبيب ثقة، أو حسب تجربة الشخص نفسه، أو حسب تجربة آخرين في مثل حاله.
ومثل أن يكون محتاجًا إلى ثمنه لنفقته أو نفقة عياله، أو من تجب عليه نفقتهم شرعًا. (وينبغي أن يذكر هنا أيضًا أن ملايين من المسلمين يموتون من الجوع - حقيقة لا تجوزًا - على حين تنفق عشرات الملايين في شهوة التدخين).
ومثل أن يكون الدخان مستوردًا من بلاد تعادي المسلمين، ويذهب ثمنه لتقويتها على المسلمين.
ومثل أن يصدر ولي الأمر الشرعي أمرًا بمنع التدخين، وطاعته واجبة فيما لا معصية فيه.
ومثل أن يكون الشخص مقتدى به في علمه ودينه، مثل علماء الدين، ويقرب منهم الأطباء.
هذا وينبغي أن نضع في اعتبارنا ونحن نصدر حكمًا بشأن التدخين عدة أمور لابد من مراعاتها، لتكون نظرتنا شاملة وعادلة.
الأولى: أن من المدخنين من يتمنى الخلاص من التدخين، ولكنه عجز عن تحقيق ذلك لتمكن هذه العادة من جسمه وأعصابه تمكنًا لم يجعل لإرادته قدرة على التحرر منه، بحيث يصيبه أذى كثير إذا تركه . فهذا معذور بقدر محاولته وعجزه، ولكل امرئ ما نوى.
الثانية: أن ميلنا إلى تحريم التدخين لما ذكرنا من وجهة النظر والاعتبارات الشرعية، لا يعنى أنه مثل شرب الخمر أو الزنى أو السرقة مثلاً، فإن الحرام في الإسلام درجات، بعضها صغائر، وبعضها كبائر، ولكل حكمه ودرجته . فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة النصوح، أما الصغائر فتكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، وغير ذلك من الطاعات، بل يكفرها مجرد اجتناب الكبائر.
وقد جاء عن ابن عباس وبعض السلف أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة . ولكن هذا أيضًا غير متفق عليه.
الثالثة: أن المحرم المختلف فيه ليس في درجة الحرام المتفق عليه . ولهذا يصعب أن ترمي فاعله بالفسوق، وأن تسقط شهادته، ونحو ذلك، وخصوصًا إذا كان مما عمت به البلوى.
هذا، وقد تبين من هذه الدراسة: أن ما حكاه صاحب السؤال عن بعض العلماء: أنه أدار معظم الحكم في التدخين على المقدرة المالية وحدها، أو عدمها، فيحرم في حالة عجز المدخن عن مصاريف التدخين، ويكره للقادر عليه، فهو غير سديد ولا مستوعب ؛ فإن الضرر البدني والنفسي يجب أن يكون له اعتباره أيضًا، بجوار الضرر المالي.
إن الغني ليس من حقه أن يضيع ماله، ويبعثره لما يشاء ؛ لأنه مال الله أولاً، ومال الجماعة ثانيًا.
وإن ما جاء في السؤال من أن كثير من علماء الدين يدخنون، فإن هؤلاء العلماء لم يدَّعو لأنفسهم العصمة، وكثير منهم ابتلوا به في مرحلة الشباب والطيش، ثم ضعفت إرادتهم عن التخلص من نيره، ومنهم من أفتى بحرمته رغم أنه مبتلى بتعاطيه.
وقد رأينا من الأطباء أيضًا كثيرين يؤمنون بأضرار التدخين، ويتحدثون أو يكتبون في ذلك، ومع ذلك لم يقلعوا عن التدخين.
وإذا كان التدخين مذمومًا في شأن الرجال، فهو أشد ذما في شأن النساء، لأنه يشوّه جمال المرأة، ويغير لون أسنانها، ويجعل رائحة فمها كريهة، مع ما يجب أن تكون عليه الأنثى من حسن وجمال.
ونصيحتي لكل مدخن أن يقلع عن هذه الآفة، بعزيمة قوية، وتصميم صارم ؛ فإن التدرج فيها لا يغني.
ومن كان ضعيف الإرادة، عليه أن يقلل من شرها ما استطاع، ولا يحسّنها لغيره، ولا يغري بها أحدًا، كأن يقدمها للآخرين، أو يلح على زواره بتناولها، بل ينبغي أن يبين لغيره أضرارها المالية والبدنية والنفسية، وأقرب هذه الأضرار أنه أصبح عبدًا لها بحيث لم يستطع أن يتخلص منها، وعليه أن يسأل الله تعالى أن يعينه على التحرر من نيرها.
ونصيحتي للشباب خاصة، أن ينزهوا أنفسهم عن الوقوع في هذه الآفة التي تفسد عليهم صحتهم، وتضعف من قوتهم ونضرتهم، ولا يسقطوا فريسة للوهم الذي يخيل إليهم أنها من علامات الرجولة، أو استقلال الشخصية . ومن تورط منهم في ارتكابها يستطيع بسهولة التحرر منها، والتغلب عليها وهو في أول الطريق، قبل أن تتمكن هي منه، وتتغلب عليه، ويعسر عليه فيما بعد النجاة من براثنها إلا من رحم ربك.
وعلى أجهزة الإعلام أن تشن حملة منظمة بكل الأساليب على التدخين وتبين مساوئه.
وعلى مؤلفي ومخرجي ومننتجي الأفلام والتمثيليات والمسلسلات، أن يكفوا عن الدعاية للتدخين، بوساطة ظهور " السيجارة " بمناسبة وغير مناسبة في كل المواقف.
وعلى الدولة أن تتكاتف لمقاومة هذه الآفة، وتحرير الأمة من شرورها، وإن خسرت خزانة الدولة ملايين من العملات، فصحة الشعب الجسمية والنفسية أهم وأغلى من الملايين والبلايين.


تشميت العاطس: حكمه وحكمته
س: أنا مؤمن بأن الإسلام لا يشرع شيئًا إلا لحمكة، قد تظهر لبعض الناس، وقد تخفى على آخرين، وقد تخفى على الجميع، امتحانًا من الله لعباده.
ومع هذا أعتقد أيضًا أنه لا حرج على المسلم أن يلتمس حكمة ما شرعه الله تعالى، عند أهل الذكر وأولى العلم، وإذا لم يعلمها هو.
ولهذا لجأت إليكم لأسأل عن الحمكة في أمر معروف بين المسلمين، وهو ما يتعلق بالعطاس :
لماذا يقول العاطس بعد عطاسه: الحمد لله ؟
ولماذا يدعو له من يسمعه ويقول له: يرحمك الله ؟ وهو المسمى في لغة الشرع " تشميت العاطس "، مع أن العطاس من الأمور الطبيعية التي تعرض لكل إنسان في حالتي الصحة والمرض عند وجود أسبابه.
وهل هذه الأشياء لازمة شرعًا: الحمدلة من العاطس، والتشميت من المستمع ثم الرد عليه من العاطس، أم هي آداب يجوز تركها ؟
ج: ( أ ) أحسن الأخ في اعتقاده أن الله تعالى لا يشرع شيئًا إلا لحكمة ومصلحة . ذلك أن من أسمائه تعالى الحكيم "، وهو اسم تكرر في القرآن الكريم.
فهو سبحانه حكيم فيما شرع وأمر، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر.
فهو لا يشرع شيئًا عبثًا ولا يخلق شيئًا باطلاً، كما قال أولو الألباب: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك).
يقول الإمام ابن القيم: " والقرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجود الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان ".
قال: ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة. (مفتاح دار السعادة ج 2 ص 24).
( ب ) وأحسن الأخ ثانيًا في إعلانه أن من الحكم ما يخفى وجهها على بعض الناس، على حين يظهر ذلك لآخرين، وأن منها ما يخفى على الجميع لحكمة أيضًا هي الابتلاء والامتحان من الله لعباده، ليظهر من يطيع ربه ممن لا يطيع إلا عقله، ومن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وحكمة أخرى هي أن يُعمل الناس فكرهم، ويبذلوا جهودهم لمحاولة استجلاء ما خفي عليهم من وجوه الحكم والمصالح، وفي هذا الاجتهاد واستفراغ الوسع في المعرفة مصالح كثيرة كانت تفوت لو أن الله تعالى اختصر عليهم الطريق، ونص على الحكمة والمصلحة من وراء كل ما خلق، وكل ما شرع نصًا مباشرًا دون أي جهد منهم.
( ج ) وأحسن الأخ ثالثًا في محاولة التماسه للحكمة فيما خفي عليه، ممن يظن فيه المعرفة من أهل العلم . وليس هذا دليلاً على شك يساوره، بل على رغبة في زيادة يقين يطمئن به وقديما قال الخليل إبراهيم: (رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال: أو لم تؤمن ؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي). (البقرة 260).
كما يدل هذا من ناحية أخرى على حرصه على الاستزادة من العلم، وهو ما أمر به القرآن حين قال: (وقل رب زدني علمًا) (طه: 114). وما رغب فيه الرسول حين قال: " لن يشبع المؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة ". (رواه الترمذي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري).
آداب العاطس ومن سمعه :
( د ) أما ما سأل عنه الأخ من الحكمة فيما شرعه الإسلام من أدب العطاس من حمد، وتشميت ودعاء، فيحسن بي قبل بيانها أن ألقي بعض الضوء على حقيقة ما شرعه الإسلام في ذلك وحكمه، فإن الحكم يسبق الحكمة :
1- فأول ما يشرع للعاطس أن يحمد الله تعالى . فيقول: " الحمد لله " أو " الحمد لله على كل حال " أو " الحمد لله رب العالمين " كما جاءت بذلك الأحاديث، وهو ما اتفق على استحبابه، كما قال النووي.
2- ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته لئلا يزعج أعضاءه ولا يزعج جلساءه، وأن يرفعه بالحمد، ليسمع من حوله، وأن يغطي وجهه، لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه . فعن أبي هريرة: قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته ". (أخرجه أبو داود والترمذي بسند جيد كما في الفتح، وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبراني).
3- ثم يجب على من سمعه يحمد الله تعالى أن يشمته، أي يدعو له بقوله: يرحمك الله . كما في حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل من عنده: يرحمك الله: وهذا من حق المسلم على المسلم.
والظاهر أنه فرض عين، كما أكدت ذلك عدة أحاديث، بعضها جاءت بلفظ الوجوب الصريح " خمس تجب للمسلم " وبعضها بلفظ الحق الدال عليه: " حق المسلم على المسلم ست " وبلفظ " على " الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، بقول الصحابي: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا ريب أن الفقهاء - كما قال ابن القيم - أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء وبه قال جمهور أهل الظاهر، وجماعة من العلماء.
وذهب جماعة إلى أن التشميت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه ابن رشد وابن العربي من المالكية، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة.
وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة.
وهو قول الشافعية.
والراجح من حيث الدليل القول الأول، كما قال الحافظ ابن حجر . قال: والأحاديث الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض الكافية يخاطب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض (انظر فتح الباري في شرح البخاري ج 13 ص 222، س 237 ط الحلبي).
4- ويستثننى من عموم الأمر بتشميت العاطس عدة أصناف مثل :
( أ ) من لم يحمد الله بعد عطاسه . فشرط التشميت الحمد . وقد روى البخاري عن أنس قال: عطس رجلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر . فقيل له: فقال: " هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله " وهذا أمر مجمع عليه.
( ب ) المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث . وذلك أن المزكوم قد يتكرر منه العطاس مرات كثيرة، فيشق على جليسه أن يشمته في كل مرة، وإذا لم يدع له بالدعاء المشروع للعاطس فلا بأس أن يدعو له بدعاء يلائمه، مثل الدعاء بالعافية والشفاء وما هو من هذا القبيل.
( ج ) الكافر . فعن أبي موسى الأشعري قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يقول: يرحمكم الله فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم ". (أخرجه أبو داود وصححه الحاكم كما قال الحافظ).
وهذا يعني أن لهم تشميتًا مخصوصًا، وليسوا مستثنين من مطلق التشميت.
( د ) من عطس والإمام يخطب يوم الجمعة، لما ورد من منع الكلام والإمام يخطب، وإمكان، تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب.
5- ويجب على العاطس أن يرد على من شمته فدعا له بالرحمة، أن يدعو له بالهداية وصلاح البال كما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري وعند غيره " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله . فإذا قال له: يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم.
أو يدعو له ولنفسه بالمغفرة كم في حديث ابن مسعود: " يغفر الله لنا ولكم ". (أخرجه البخاري في الأدب المفرد والطبراني).
وأجاز بعض العلماء الجمع بين الصيغتين . وقد أخرج في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله . قال: "يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم ".
حكمة الحمد والتشميت عند العطاس :
(هـ) وإذا عرفنا أدب العطاس وأحكامه، فقد آن لنا أن نستحلي وجه الحكمة والمصلحة في ذلك، وهي في الواقع تتجلى في ثلاثة أمور :
أولا: إن اتجاه الإسلام في آدابه عامة إلى ربط المسلم بالله في كل أحيانه، وعلى كافة أحواله، وينتهز لذلك الفرص الطبيعية والمناسبات العادية التي من شأنها أن تحدث وتتكرر كل يوم مرة أو مرات، ليذكر المسلم بربه، ويصله بحبله، فيذكره تعالى مسبحًا، أو مهللاً، أو مكبرًا، أو حامدًا، أو داعيًا.
وهذا سر الأذكار والأدعية المأثورة الواردة عند ابتداء الأكل والشرب، وعند الفراغ منها، وعند النوم واليقظة، وعند الدخول والخروج، وعند ركوب الدابة ولبس الثوب، وعند السفر، والعودة منه . . . وهكذا.
فلا غرابة أن يعلم المسلم إذا عطس أن يحمد الله، وأن يقول سامعه: يرحمك الله، وأن يرد عليه: يهديكم الله . . وبهذا تشيع المعاني الربانية في جو المجتمع المسلم، شيوعها في حياة الفرد المسلم.
أما تخصيص العاطس بالحمد، فقد قال العلامة الحليمي، الحكمة فيه أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ، الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تُقابل بالحمد لله، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع " ا هـ.
وأما قول السامع " يرحمك الله، فقد أكد القاضي ابن العربي في ذلك: أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: يرحكم الله، كان معناه: أعطاك الله رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير . ا هـ.
وقال ابن أبي جمرة في شرح العطاس: وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس . ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلاً منه وإحسانًا إلخ. (انظر: فتح الباري " المذكور سابقًا ").
ثانيًا: كما تحرص الآداب الإسلامية على ربط المسلم بإخوانه المسلمين.
وبعبارة أخرى: على إشاعة معاني الإخاء والمحبة والتواد بين الناس . فهي التي تجعل للحياة طعمًا، وتعين على فعل الخير، وتطرد الكآبة والتعاسة من حياة الجماعة.
أما الأنانية والفردية والحسد والبغضاء، فهي - كما سماها الرسول - داء الأمم وحالقة الدين.
ولا عجب أن جاء أدب العطاس في هذا الخط، ليقر لونًا من ألوان " المجاملة " الاجتماعية الطيبة، التي تنافي الجفوة والتقاطع والهجران، وتثبت معاني التواصل والمودة والرحمة . قال ابن دقيق العيد: " ومن فوائد التشميت تحصيل المودة، والتآلف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عند الكبر، والحمل على التواضع . . . " وكلها معان إنسانية جميلة.
ثالثًا: إن الإسلام قد جاء في هذا الأدب ما أبطل اعتقادات الجاهلية التي لم تقم على أساس من عقل أو نقل، وما نشأ عن هذه الاعتقادات من عادات مستقبحة في الفطرة، ضارة بالحياة.
فقد ذكر العلامة ابن القيم أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون بالعطاس ويتشاءمون منه، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح.
قال رؤبة بن العجاج يصف فلاه: قطعتها ولا أهاب العطاس.
وقال امرؤ القيس: وقد أغتدى قبل العطاس بهيكل . ..
أراد أنه كان ينتبه لصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عاطسًا، يتشاءم بعطاسه . وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمرًا وشبابًا، وإذا عطس من يبغضونه قالوا له: وريًا وقحابًا ". (الورى كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب كالسعال وزنًا ومعنى).
فكان الرجل إذا سمع عطاسًا يتشاءم به، يقول: بك لا بي . أي أسال الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي . وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد.
فلما جاء الله سبحانه بالإسلام، وأبطل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما كان عليه الجاهلية من الضلالة، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة.
وكما كان الدعاء على العاطس نوعًا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ (الرحمة) المنافي للظلم، وأمر العاطس أن يدعو لمشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم . أو يهديكم الله ويصلح بالكم.
فأما الدعاء بالهداية، فلما أن اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه أهل الجاهلية، فدعا له أن يثبته الله عليها، ويهديه إليها.
وكذلك الدعاء بإصلاح البال، وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله . . وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة، فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال.
وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت (يغفر الله لنا ولكم) ليستحصل من مجموع دعوتي العاطس والمشمت له المغفرة والرحمة لهما معًا. (انظر مفتاح دار السعادة: ج 2 ص 276، 277).
والحمد لله رب العالمين.


عناية الإسلام بالصحة العامة والطب
س: أرجو أن تتفضلوا بالإجابة عن هذا السؤال بما عهد عنكم من الشرح والتفصيل وهو :
هل صحيح أن الإسلام لا يعترف بالعدوى ! وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا عدوى " وأن الأمور كلها تجري بقضاء الله وقدره، فلا داعي للخوف من العدوى . إن انتشار مثل هذه الأفكار بين العامة يعوق عمل الذين يعملون في الصحة العامة أو في الطب الوقائي ولا سيما إذا روجها أناس يتحدثون باسم الدين، ممن يلبسون لبوس المشايخ أو المطاوعة، كم سمعت ذلك من خطبة جمعة بأحد المساجد أخيرًا.
نحن نعتقد بما لدينا من معلومات محدودة عن ديننا الإسلامي أنه يحرص على الصحة ويقاوم الأمراض، ويأمر بالوقاية قبل المرض، وبالعلاج بعد المرض، ويحذر من العدوى . ولكنا نرجو إسهامكم في نشر الوعي الصحي ببيان موقف الشرع الإسلامي من هذه الأمور، مؤيدًا بالأدلة من الكتاب والسنة . جزاكم الله خيرًا.
ج: إن من أكبر آفات الإسلام في عصرنا ما يتمثل في أولئك الحشوية من أنصاف الجهلة أو أنصاف المتعلمين، الذين يتزيون بزي الدين ويتحدثون باسمه وعَّاظًا أو خطباء أو مدرسين وهم لا يعرفون منه إلا قشورًا تافهة، أو نقول رديئة.
أو معلومات مشوشة، أو أحاديث موضوعة أو ضعيفة، أو حتى صحيحة ولكنهم يضعونها في غير موضعها، ويفهمونها على غير وجهها فيضلون ويضلون . ويزيد الطين بلة أن هؤلاء كثيرًا ما يجدون منزلة في قلوب العوام الذين لا يميزون بين الغث والسمين، فهم يستميلون عواطفهم، ويشبعون أخيلتهم بالمبالغات في الترغيب والترهيب، والقصص والحكايات.
والحقيقة أن موقف الإسلام من الصحة والوقاية وسلامة الأبدان موقف لا نظير له في أي دين من الأديان . فالنظافة فيه عبادة وقربة، بل فريضة من فرائضه.
( أ ) إن كتب الشريعة في الإسلام تبدأ أول ما تبدأ بباب عنوانه " الطهارة " أي النظافة فهذا أول ما يدرسه المسلم والمسلمة من فقه الإسلام.
وما ذلك إلا أن الطهارة هي مفتاح العبادة اليومية " الصلاة " كما أن الصلاة مفتاح الجنة فلا تصح صلاة المسلم ما لم يتطهر من الحدث الأصغر بالوضوء ومن الحدث الأكبر بالغسل . والوضوء يتكرر في اليوم عدة مرات، تغسل فيه الأعضاء التي تتعرض للاتساخ والعرق والأتربة.
ومن شرط صحة الصلاة كذلك نظافة الثوب والبدن والمكان من الأخباث والقاذورات.
وفوق ذلك أشاد القرآن والسنة بالنظافة وأهلها . فقال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (البقرة: 222) وأثنى على أهل مسجد قباء فقال: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين). (التوبة: 108).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الطهور شطر الإيمان " أي نصفه . وهو حديث صحيح رواه مسلم . وروي في حديث عند الطبراني " النظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة ".
ومن ذلك شاعت بين المسلمين هذه الحكمة التي ينطق بها خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف لها مثيل عند غيرهم، وهي " النظافة من الإيمان ".
وروي في بعض الأحاديث " تنظفوا فإن الإسلام نظيف "، " تنظفوا حتى تكونوا كالشامة بين الأمم ".
وقد عني النبي - صلى الله عليه وسلم - بنظافة الإنسان، فدعا إلى الاغتسال، وخاصة يوم الجمعة " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " (رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري) . " حق على كل مسلم في كل سبعة أيام يوم يغسل فيه رأسه وجسده ". (متفق عليه عن أبي هريرة).
وعنى بنظافة الفم والأسنان خاصة، فرغب في السواك أعظم الترغيب " السواك مطهرة للفم مرضاة لرب ". (رواه أحمد عن أبي بكر والشافعي في مسنده وأحمد أيضًا والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عائشة وابن ماجة وعن أبي أمامه الباهلي وعلقه البخاري بصيغة الجزم).
وبنظافة الشعر، " من كان له شعر فليكرمه ". (أبو داود عن أبي هريرة).
وبإزالة الفضلات من الإبط والعانة وتقليم الأظافر ..
وعني بنظافة البيت وساحاته وأفنيته فقال: " إن الله جميل يحب الجمال، طيب يجب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم ولا تتشبهوا باليهود ". (رواه مسلم من حديث ابن مسعود).
وعني بنظافة الطريق، وتوعد كل من ألقى فيه أذى أو قذرًا.
( ب ) وحذر أشد التحذير من أعمال قد يرتكبها بعض الجهال دون اكتراث لنتائجها . مع أنها تعد من أشد مصادر العدوى خطرًا، فضلاً عما في ارتكابها من منافاة الذوق السليم والبعد عن خصائص الإنسان الراقي.
ومن هذه الأعمال: البول في الماء وبخاصة الراكد . . البول في الحمام . . . . التبرز في الظل أو في الطريق أو في موارد الماء وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمور " الملاعن الثلاث " لأنها تجلب على صاحبها لعنة الله والملائكة والصالحين من الناس.
( ج ) كما رغب الإسلام في العمل والنشاط والحركة والبكور، وحذر من التباطؤ والتكاسل والترهل، ودعا إلى رياضة الأجسام بالسباحة والرماية وركوب الخيل، وما شابهها من ألوان الفروسية وجعل من حق الأولاد على آبائهم أن يدربوهم على ذلك، وشرع التنافس والمسابقات تشجيعًا على ذلك، وإغراء به . وسبق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل، وأعطى السابق . كما شرع المسابقة على الأقدام ونحوها.
( د ) ومن عناية الإسلام بصحة الأجسام: تحريمه المسكرات والمفترات (ال******) مهما اتخذت لها من أسماء وعناوين، وتشديده في ذلك غاية التشديد، وإيجابه العقوبة الشرعية على من تناولها . وتأثيمه كل من شارك فيها بجهد ما، يساعد على تناولها، حتى أنه لعن في الخمر عشرة.
( هـ ) ومن عناية الإسلام بالأجسام: إنكاره على من حرم ما أحل الله من الطيبات تدينًا، أو شحًا (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (الأعراف: 32). (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا) (المائدة: 87) . وفي مقابل ذلك نهى عن الإسراف في الطعام والشراب خشية الإضرار بالبدن (كلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31). والإسلام دين اعتدال في كل شيء.
( و ) كما أنه حرم إرهاق البدن بالعمل وطول السهر والجوع، وإن كان ذلك في صورة عبادة الله تعالى فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رهط من أصحابه أراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام، والثاني أن يصوم الدهر فلا يفطر، والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج . وقال لهم: " أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "
كما أنه أنكر على عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو وغيرهما الغلو في التعبد، مذكرًا بحق أبدانهم وأسرهم ومجتمعهم عليهم.
( ز ) ومن عناية الإسلام بحق الأجسام ما شرعه من رخص في أداء الفرائض، إذا كان العمل بالعزائم يؤذي الجسم - كأن يسبب له مرضًا، أو يزيد في مرض قائم، أو يؤخر الشفاء منه، أو يؤدي إلى مشقة زائدة، فهنالك يدع الوضوء إلى التيمم، والصلاة قائما إلى الصلاة قاعدًا أو مضطجعا، وله الفطر في رمضان، إلى غير ذلك من أنواع التخفيف إلى بدل أو إلى غير بدل حتى أصبح مقررًا عند عامة المسلمين: أن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.
( ح ) والإسلام، كما عني بالطب سواء كان طبًا علاجيًا أم وقائيًا، وإن كانت عنايته بالوقائي أكثر، لما هو معلوم: إن درهم وقاية خير من قنطار علاج . وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أحاديث تصف بعض الأدوية لبعض الأمراض . وقد اهتم بها بعض العلماء، ظانين أنها كلها جزء من الدين والوحي الإلهي، ولكن الواقع أن منها ما هو من خبرات البيئة ونتائجها.
ومنها ما يليق ببيئة معينة في حرارتها ومناخها وظروفها كالبيئة الصحراوية العربية ولا يمكن أن يحمل على العموم لكل الناس، كما بين ذلك المحقق ابن القيم رحمه الله.
على أن هناك جانبًا هامًا يتعلق بالطب، يغفله الكثيرون ممن يروق لهم الحديث عن الطب النبوي أو الطب في الإسلام، ذلك هو الجانب التوجيهي الذي يتصل بمهمة الدين ووظيفة الرسول.
فقد أدخلت الأديان الوثنية والمحرفة أفكارًا فاسدة، وخرافات باطلة، عوقت نمو الطب الصحيح، وأفسدت الإتنفاع به، فجاء نبي الإسلام، فطارد تلك الأوهام، وصحح تلك الأغلاط، ووضع جملة من المبادئ الخالدة، تعد بحق حجر الأساس لقيام صرح مشيد لطب إنساني علمي سليم.
ومن هذه المبادئ المحمدية :
1- قرر قيمة البدن، وحقه على صاحبه، وسمع الناس لأول مرة في جو الدين " إن لبدنك عليك حقًا ".
ومن حقه عليه أن يطعمه إذا جاع، ويريحه إذا تعب، وينظفه إذا اتسخ، وكذلك يداويه إذا مرض . هو حق واجب لا يجوز في نظر الإسلام أن ينسى ويهمل لحساب الحقوق الأخرى، ولو كان منها حق الله عز وجل.
2- حل مشكلة الإيمان بالقدر، الذي كان يعتقده المتدينون معارضًا للتداوي وطلب العلاج، ظانين أن عليهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء.
روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي عن أبي خزامة قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، فهل ترد من قدر الله شيئًا ؟ قال: " هي من قدر الله " . وفي المسند: جاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى ؟ قال: نعم، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء . وهذا هو الجواب الحاسم فإن الله قدر الأسباب والمسببات، وجعل من سننه في خلقه دفع قدر بقدر، فيدفع قدر الجوع بقدر الغذاء، ويدفع قدر العطش بقدر الشرب، والداء بالدواء، وكل من الدافع والمدفوع قدر الله . فإنه عليه السلام كان يفعل التداوي في نفسه، ويأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه . وفي الصحيح من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه عليه.
وحينما ذهب عمر إلى الشام وعلم قبل دخولها أن هناك طاعونًا شاور أصحابه في الرجوع واستقر الرأي على العودة بمن معه بعدًا بهم عن مواطن الخطر، فقال أبو عبيدة: أنفر من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة.
نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله . أرأيت لو كان لك واديان أحدهما مخصب والآخر مجدب، أليس إن رعيت المخصب رعيته بقدر الله ؟
3- أقر سنة الله في العدوى وأمر بالاحتراز والوقاية والعزل الصحي في الأوبئة العامة كالطاعون ونحوه، بل وسع دائرة الوقاية حتى شملت الحيوان الأعجم.
وقال: " لا يوردن ممرض على مصح " (رواه البخاري عن أبي هريرة) . والممرض: الذي إبله مراض، والمصح: الذي إبله صحاح . ومعنى: لا يورد عليه: لا يخلط المريضة الجرباء بالصحيحة أثناء ورود الماء.
وفي مسلم: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ارجع فقد بايعناك ".
وعند ابن ماجة: لا تديموا النظر إلى المجذومين.
ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم -: كلم المجذوم وبينك وبينه قدر رمح أو رمحين.
وقال في شأن الطاعون - وهو وباء عام -: " إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه ".
وهذا حصر للوباء في أضيق نطاق.
أما حديث " لا عدوى " فهو صحيح رواه البخاري ولكن معناه: أن الأمراض لا تعدي بطبعها وذاتها كما يعتقد أهل الجاهلية، بل بتقدير الله تعالى، وبناء على سننه الكونية.
4- قاوم ما يسمى " بالطب الروحاني " واحترم الطب القائم على الملاحظة والتجربة والأسباب والمسببات، وأبطل ما أشاعته الوثنية الجاهلية عند العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب من اطراح الأسباب الظاهرة والسنن الكونية . والاعتماد على الأسباب الخفية والقوى المجهولة من عزائم ورقي غير مفهومة، وشعوذة يروجها ال***ة والدجالون.
روى الإمام أحمد عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير . قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأي في عنقي خيطًا فقال: ما هذا الخيط ؟ قلت: خيط رقي لي فيه . فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الرقي والتمائم والتولة (رواه أحمد وأبو يعلي بإسناد جيد والحاكم وقال صحيح). شرك " قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت، فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها . إنما يكفيك أن تقولي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا ".
وروى بسنده عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وهو مريض، نعوده، فقيل له: لو تعلقت شيئًا، (أي حجابًا أو خرزًا أو نحو ذلك) فقال: أتعلق شيئًا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: : " من تعلق شيئًا وكل إليه ".
وروي عن عقبة بن عامر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - " من علق تميمة فقد أشرك ".
وفي رواية " من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له " (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم) . ووضع مبدءًا تشريعيًا بقطع الطريق على من يدعون الطب وليسوا من أهله " من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن ". (رواه البخاري من حديث ابن عباس).

وأما الرقي فهي دعاء وتضرع إلى الله، وليست بدواء، وقد حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأدوية بحسب زمنه، فقال: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم، وكية بنار " ولم يعد منها الرقية أو ما يماثلها.
5- فتح باب الأمل على مصراعيه أمام الأطباء والمرضى معًا، في الشفاء من كل مرض، مهما طال واتصل، وقضى على اليأس المحطم، وعلى ما يسمى بالأمراض المستعصية . روى البخاري عن أبي هريرة " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ".
وروى مسلم وأحمد عن جابر " لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى ".
وروى أحمد " أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله " قال الشوكاني: فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن كان به داء قد اعترف الأطباء بأنه لا دواء له، وأقروا بالعجز عنه.
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " :
في قوله - صلى الله عليه وسلم - " لكل داء دواء " تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا شعرت نفسه أن لدائه دواء يزيد تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه، وأمراض الأبدان على وزن أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى ". (زاد المعاد ج3 ص 69).
6- عني الإسلام بالصحة النفسية عناية فائقة " فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان " ولا ريب أن بين الناحية النفسية والناحية الجسمية تبادلاً في التأثير، كلاهما يؤثر في الآخر قوة وضعفًا، وصحة وسقمًا، واعتدالاً وانحرافًا، وقد أثبت ذلك علماء النفس وأطباء الجسم من قديم. (يراجع " شفاء النفس " من سلسلة اقرأ).
وقديمًا قالوا: العقل السليم في الجسم السليم . وعلق على ذلك برناردشو فقال: بل الجسم السليم في العقل السليم.
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قوة الروح وأثرها في قوة البدن حين كانوا يبنون المسجد، والصحابة يحملون حجرًا، وعمار يحمل حجرين حجرين، فقال: " إن عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه ".
وأشار إليها مرة أخرى حين نهاهم عن الوصال في الصيام، فقالوا له: تنهانا عن الوصال وتواصل ؟ قال: " وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ". (رواه البخاري).
ومن مثله في قوة الروح حتى يحتمل ما يحتمله عليه السلام ؟ والمؤمن أقوى الناس روحًا، وأصحهم نفسًا، فقد ملأ الإيمان ما بين جوانحه أمنًا وطمأنينة ورضًا وأملاً وحبًا، وطهر نفسه من أدران الحقد والغل والحسد والبغضاء وأمراض القلوب الفتاكة.
وإذا قيل: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فالحق أنه يأكل فوق ذلك: صحة الإنسان وأعصابه . وما أصدق القائل: لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله :
والقائل :
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
وفي الحديث " دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة ".
والحسد داء اجتماعي ونفسي لا ريب، ومع هذا فهو داء جسماني أيضًا.
هذه هي المبادئ الخالدة التي أرسى الإسلام قواعدها، وحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تثبيتها، وهي جديرة - إذا روعيت وطبقت - أن تنشئ أجيالاً من الأصحاء الأقوياء الذين لا ينتصر الدين ولا ترقى الدنيا إلا بهم.
وبالله التوفيق.


سماع الأغاني
س: يحرم بعض الناس سماع الأغاني - أيًا كان لونها - مستدلين بقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين).
واحتجوا بأن بعض الصحابة قالوا: إن لهو الحديث في الآية هو الغناء، كما يحتجون بآية أخرى هي قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) والغناء من اللغو فهل هذا الاستدلال بالآيتين صحيح ؟ وما رأيكم في سماع الأغاني ؟
أفتونا في هذه المسألة الخطيرة، فإن الناس تنازعوا تنازعًا شديدًا وفي حاجة إلى حكم بين وقول فصل، ولكم منا الشكر ومن الله الثواب.
ج: مسألة الغناء بآلة (أي مع الموسيقى) وبغير آلة، مسألة ثار فيها الجدل بين فقهاء المسلمين منذ الأعصر الأولى، فاتفقوا في مواضع، واختلفوا في أخرى.
اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية، إذ أن الغناء ليس إلا كلامًا فحسنه حسن وقبيحه قبيح . وكل قول يخالف أدب الإسلام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم وقوة التأثير ؟
واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك في مواطن السرور المشروعة كالعرس، وقدوم الغائب وأيام الأعياد، وقد وردت في ذلك نصوص صحيحة صريحة.
واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينًا، فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًا، بل عده حرامًا.
والذي نفتي به ونطمئن إليه من بين تلك الأقوال: أن الغناء - في ذاته - حلال فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح بحرمتها، وكل ما ورد في تحريم الغناء فهو إما صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح . ومن ذلك الآيتان المذكورتان في السؤال.
فأما الآية الأولى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) (لقمان: 6) . إلخ . فقد استدل بها بعض الصحابة والتابعين على حرمة الغناء وخير جواب لنا عن تفسيرهم هذا ما ننقله عن الإمام ابن حزم في المحلى: قال: لا حجة في هذا لوجوه: أحدها: إنه لا حجة لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين . والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم، لأن الآية بها وصف (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزوًا) وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، فلو أن امرءًا اشترى مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا لكان كافرًا، فهذا هو الذي ذمه الله تعالى، وما ذم قط عز وجل من اشترى لهو الحديث ليتلهى به، ويروح نفسه، لا ليضل عن سبيل الله تعالى . وكذلك من اشتغل عن الصلاة عامدًا بقراءة القرآن أو بقراءة السنن أو بحديث يتحدث به أو بغناء أو بغير ذلك فهذا فاسق عاص لله تعالى، ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن . ا هـ.
وأما الآية الثانية (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) (القصص: 55). فالاستدلال بها على حرمة الغناء غير سليم أيضًا، فإن الظاهر من الآية أن اللغو هو سفه القول من السب والشتم ونحو بذلك . وبقية الآية تنطق بذلك، قال تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) فهي شبيهة بقوله تعالى في عباد الرحمن: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا).
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة اللغو ككلمة الباطل تعني ما لا فائدة فيه، وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرمًا ما لم يضيع حقًّا أو يشغل عن واجب.
روي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتي به يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو، وقال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).
قال الإمام الغزالي: " إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء عن طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه على أن لا فائدة فيه - لا يؤاخذ به، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص ؟ ".
على أنا نقول: ليس كل غناء لغوًا، إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنية الصالحة تجعل اللهو قربة والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في المحلى ردًا على الذين يمنعون الغناء قال: " واحتجوا فقالوا: أمِن الحق الغناء أم من غير الحق ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث " وقد قال الله تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال). (الفرقان: 63).
فجوابنا وبالله التوفيق:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " فمن نوى باستماع الغناء عونًا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويج نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق . ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهًا، وقعوده على باب داره متفرجًا وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك، ومد ساقه وقبضها وسائر أفعاله. (المحلى)
وأما الأحاديث التي استدل بها المحرمون فكلها مثخنة بالجراح، لم يسلم منها حديث دون طعن في ثبوته أو دلالته أو فيهما معًا . قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه " الأحكام ": لم يصح في التحريم شيء، وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة، وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.
وإذا سقطت أدلة التحريم بقي الغناء على الإباحة الأصلية، فكيف وقد جاءت نصوص ثابتة تفيد حل الغناء ؟ نكتفي منها بما ورد في الصحيحين أن أبا بكر دخل على النبي في بيت عائشة وعندها جاريتان تغنيان فانتهرهما أبو بكر وقال: " أمزمور الشيطان في بيت رسول الله ؟ " فقال النبي عليه السلام: " دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد " ولم يرد نهي عن الغناء في غير العيد، وإنما المعنى أن العيد من المواطن التي يستحب فيها إظهار السرور بالغناء وغيره من اللهو البريء.
ولكن لا ننسى في ختام هذه الفتوى أن نضيف إليها قيودًا لابد من مراعاتها :
( أ ) فلابد أن يكون موضوع الأغنية مما يتفق وتعاليم الإسلام وآدابه ..
فالأغنية التي تقول: " الدنيا سيجارة وكأس " مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجسًا من عمل الشيطان ويلعن شارب " الكأس " وعاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل، كما أن التدخين ضرر محقق.
والأغنية التي تمجد صاحب " العيون الجريئة " أو " صاحبة العيون الجريئة " أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) ..ويقول رسول الله: " يا علي لا تتبع النظرة النظرة ؛ فإنما لك الأولى وعليك الثانية " وهكذا.
( ب ) ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به، ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة - ينقل الأغنية من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام من مثل ما يسمعه الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تصرح بـ " ياه " و" يوه " و" ييه " ..إلخ.
ولنذكر قول الله لنساء النبي: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
(جـ) هذا إلى أن الدين حرم الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحا، إن هذا دليل على فراغ القلب والعقل من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار حقوق أخرى كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود، وما أصدق وأعمق ما قاله ابن المقفع: " ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع ".
( د ) على أن المستمع - بعد الحدود التي ذكرناها - يكون فقيه نفسه، فإذا كان الغناء، أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة ويسبح به في شطحات الخيال الحسي فعليه أن يتجنبه ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.
ولا ريب أن هذه القيود قلما توافرت جميعًا في أغاني هذا العصر بكمها وكيفها وموضوعها وطريقة أدائها والتصاقها بحياة أقوام بعيدين كل البعد عن الدين وأخلاقياته ومثله . فلا ينبغي للمسلم التنويه بهم، والمشاركة في نشر ذكرهم، وتوسيع نطاق تأثيرهم إذ به يتسع نطاق إفسادهم.
ولهذا كان الأولى بالمسلم الحريص على دينه أن يأخذ بالعزيمة لنفسه وأن يتقي الشبهات وينأى بنفسه عن هذا المجال الذي يصعب التخلص فيه من شائبة الحرام إلا ما ندر.
ومن أخذ بالرخصة فليتحر لنفسه وليتخير ما كان أبعد عن مظان الإثم ما استطاع، وإذا كان هذا في مجرد (السماع) فإن الأمر في (الاحتراف) بالغناء يكون أشد وأخوف ؛ لأن الاندماج في البيئة "الفنية" كما تسمى خطر شديد على دين المسلم يندر من يخرج منه سالمًا معافى ..
وهذا في الرجل، أما المرأة فالخطر منها وعليها أشد، ولذا فرض الله تعالى عليها من التصوّن والتحفظ والاحتشام في لبسها ومشيتها وكلامها ما يباعد الرجال من فتنتها وما يباعدها من فتنة الرجال ويحميها من أذى الألسن وشره الأعين وطمع القلوب المريضة كما قال تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقال: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
واحتراف المرأة المسلمة للغناء يعرضها لأن تفتن أو تُفتن ويورطها في محرمات قلما تستطيع التغلب عليها من الخلوة بالأجنبي للتلحين أو التسجيل أو التعاقد أو غيرها، ومن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها اختلاتطًا لا تقره الشريعة بل الاختلاط بالنساء المتبرجات "المتحررات" من المسلمات بالوراثة ومن غير المسلمات هو محرم أيضًا.

مشاهدة التليفزيون
س: أنا شاب أبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، ولي أخوة صغار، يذهبون كل يوم إلى منزل جيراننا لمشاهدة التليفزيون عندهم، ولما طلبت من والدي شراء جهاز خاص بنا، قال: إن التليفزيون " حرام "، ولا أدخله بيتي . أرجو أن ترشدونا في هذا الموضوع.
جـ: لقد تكلمت عن حكم " التليفزيون " قبل ذلك: هل هو حلال أم حرام ؟ وذلك في أول حلقة قدمتها للمشاهدين في برنامج " هدي الإسلام " من " تليفزيون " قطر . وقلت في ذلك :
إن " التليفزيون " كالراديو والصحيفة والمجلة، كل هذه الأشياء أدوات ووسائل لغايات ومقاصد، لا تستطيع أن تقول هي خير، كما لا تستطيع أن تقول هي شر . كما لا تستطيع أن تقول: إنها حلال أو إنها حرام ولكنه بحسب ما توجه إليه .وبحسب ما تتضمنه من برامج ومن أشياء ...كالسيف، فهو في يد المجاهد أداة من أدوات الجهاد، وهو في يد قاطع الطريق أداة من أدوات الإجرام .. فالشيء بحسب استعماله . والوسائل بحسب مقاصدها.
ممكن أن يكون " التليفزيون " من أعظم أدوات البناء والتعمير الفكري والروحي، والنفسي والأخلاقي والاجتماعي . و"الراديو" و"الصحيفة" كذلك.
وممكن أن تكون من أعظم أدوات التخريب والإفساد، فهذا راجع إلى نوعية ما يتضمنه من مناهج وبرامج ومؤثرات.
الذي أستطيع أن أقوله: إن هذه الأشياء فيها الخير، وفيها الشر، وفيها الحلال وفيها الحرام . والذي قلته من أول الأمر: إن المسلم يستطيع أن يكون فقيه نفسه في هذه الأمور، فينفتح "الراديو" أو " التليفزيون " عندما يكون هناك خير ويغلقه عندما يكون هناك شر، يسمع ويشاهد الأخبار والبرامج الثقافية، والبرامج الدينية والتعليمية والترفيهية المقبولة، ويرى الأولاد الرسوم المتحركة والأشياء التي تسلي الأطفال ..أو تعلمهم ما ينفع.
وهناك بعض الأشياء لا تجوز رؤيتها . مثل كثير من "الأفلام" . الأفلام العربية - للأسف - فإن معظم هذه الأفلام مدمر " مخرب " مفسد . . جل مضمونها أن كل بنت لابد أن يكون لها صاحب، لابد أن تحب وتعشق، وبالتالي لابد أن تكذب على أهلها، وتتعلم كيف تتسلل من البيت، وتتخلص بالكلام المعسول وبالقصص المفتراة، وبكذا وبكذا . . أفلام هي مدرسة لتعليم هذه الرذائل . ومعظم الأفلام - والحق يقال- لا تعنى إلا بهذه الناحية . . لا تخلو من مواقف الإغراء ال***ي، ومن شرب الخمر، ومن الرقص الخليع، ويقولون: إن الرقص أصبح في دنيانا ثقافة وفنًا رفيعًا . الفتاة التي لا تتعلم الرقص لا تكون عصرية . وهل حرام أن يجلس الشاب مع الفتاة ويكلمها وتكلمه ويعقدا صداقة بريئة ؟
هذه هو الذي جعل بعض المتدينين الحريصين على دينهم، المشفقين على أخلاق أبنائهم وبناتهم، يقاومون دخول هذه الأدوات إلى بيوتهم ؛ لأن شرها أكثر من خيرها، وإثمها أكبر من نفعها، وما كان كذلك فهو حرام، ولا سيما أن هذه الوسائل شديدة التأثير على الأنفس والعقول، وسريعة التسلل إلى الأفكار والعواطف، فضلاً عما فيها من سرقة الأوقات والإلهاء عن الواجبات.
ولا شك أن هذا هو ما يقتضيه الاحتياط، عند غلبة الشر والفساد، ولكن البلوى عمت بهذه الأشياء، ولم يعد في مقدور أكثر الناس الاستغناء عنها، وخصوصًا أنها تتضمن جوانب إيجابية نافعة، ولهذا كان الأيسر على الناس، والأليق بالواقع، هو ما قلته من وجوب الحرص على الانتفاع بالخير، وترك الشر الخالص أو الغالب من " الأفلام الرديئة والتمثيليات وما في معناها ".
فمثل هذا يمكن أن يتخلص الإنسان منه بإغلاق الراديو أو " التليفزيون " والصحيفة أيضًا إذا عرضت صورًا خليعة يمتنع عنها، أو مقالات سيئة يتجنب قراءتها، وهكذا . فالإنسان مفتي نفسه، وبمقدوره أن يسد باب الفساد عن نفسه، وإذا كان لا يملك نفسه أو أسرته، فالأولى ألا يدخل هذه الأدوات والأجهزة إلى منزله، سدًا للذريعة.
هذا هو رأيي في هذه الأمور، والله تعالى الموفق إلى سواء السبيل.
وتبقى في هذه الناحية المسئولية الكبرى على الدولة بصفة عامة، وعلى المسئولين عن هذه الأجهزة الإعلامية بصفة خاصة، فإن الله سائلهم عن كل ما تحمله هذه الأدوات للناس، فليحضروا للسؤال من الآن جوابًا


اقتناء التماثيل
س: ما حكم التماثيل في الإسلام ؟ إن لديّ تماثيل لقدماء المصريين، أريد وضعها زينة في البيت، فاعترض البعض وقالوا: إنها حرام، فهل هذا صحيح ؟
جـ: حرم الإسلام التماثيل . . . كل الصور المجسمة، ما دامت لكائن حي مثل الإنسان أو الحيوان فهي محرمة، وتزداد حرمتها إذا كانت لمخلوق معظم . مثل ملك أو نبي كالمسيح أو العذراء، أو إله من الآلهة الوثنية مثل البقر عند الهندوس، فتزداد الحرمة في مثل ذلك وتتأكد حتى تصبح أحيانًا كفرًا أو قريبًا من الكفر، من استحلها فهو كافر.
فالإسلام يحرص على حماية التوحيد، وكل ما له مساس بعقيدة التوحيد يسد الأبواب إليه.
بعض الناس يقول: هذا كان في عهد الوثنية وعبادة الأصنام، أما الآن فليس هناك وثنية ولا عبادة للأصنام وهذا ليس بصحيح . . فلا يزال في عصرنا من يعبد الأصنام، ومن يعبد البقرة ويعبد الماعز . فلماذا ننكر الواقع ؟ هناك أناس في أوروبا لا يقلون عن الوثنيين في شيء . . . تجد التاجر يعلق على محله (حدوة حصان) مثلاً، أو يركب في سيارته شيئًا ما . . فالناس لا يزالون يؤمنون بالخرافات، والعقل الإنساني فيه نوع من الضعف ويقبل أحيانًا ما لا يصدق . . حتى المثقفون، يقعون في أشياء هي من أبطل الباطل ولا يصدقها عقل إنسان أمي.
فالإسلام احتاط وحرم كل ما يوصل إلى الوثنية أو يشم فيها رائحة الوثنية . . ولهذا حرم التماثيل.
فتماثيل قدماء المصريين من هذا النوع.
ولعل بعض الناس يعلقون هذه التماثيل بوصفها نوعًا من التمائم، كأن يأخذ رأس " نفرتيتي " أو غيرها ليمنع بها الحسد أو الجن أو العين . . وهنا تتضاعف الحرمة . إذ تنضم حرمة التمائم إلى حرمة التماثيل.
لم يبح من التماثيل إلا ألعاب الأطفال فقط، وما عداها فهو محرم . . وعلى المسلم أن يتجنبه.


التصوير الشمسي
س: أقتني آلة تصوير ؛ لأقوم بالتصوير بها في وقت المناسبات والرحلات، فهل في التصوير بها إثم أو حرمة ؟.
كما يوجد لدي في غرفة النوم صور لبعض الممثلين من الرجال، وصحف تشتمل على صور للنساء، فهل في وجودها لدي حرج ؟ وما حكم ذلك في شرعنا الإسلامي ؟
جـ: أما التصوير " بالكاميرا " وهي آلة التصوير، فقد ذهب مفتي مصر الأسبق العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، وكان من كبار العلماء، ومفتي عصره، ذهب في رسالة له اسمها " الجواب الكافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي " إلى إباحة هذا التصوير وقال بأن ذلك في الحقيقة ليس عملية خلق كما جاء في الحديث " يخلق كخلقي . . . " وإنما هو حبس للظل . وما أحسن تسميته بـ " العكس " كما يسميه أبناء الخليج، والمصور يسمونه " العكاس " وذلك لأنه يعكس الظل كالمرآة . فهذه العملية، عملية حبس الظل أو عكسه، ليس كما يفعل النحات أو الرسام، ولذا فهو لا يدخل في الحرمة وإنما هو مباح، وقد وافق على فتوى الشيخ محمد بخيت كثير من العلماء، وقد اخترت هذا الرأي في كتابي " الحلال والحرام " ..
هذا التصوير كما ذكرت لا شيء فيه، بشرط أن تكون الصورة نفسها التي يلتقطها أو يعكسها حلالاً . . فلا يصور امرأة عارية أو شبه عارية أو مناظر لا تجوز شرعا.
وإنما لو صور أبناءه أو أصدقاءه أو مشاهد طبيعية أو حفلاً بريئًا في مناسبة أو غير ذلك . . . فهذا لا شيء فيه.
وهناك حالات ضرورية يبيح فيها التصوير حتى أشد المتزمتين، مثل صور الهوية أو جواز السفر أو صور المشبوهين.
أما اقتناء صور الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ومن شابههم، فهذا لا ينبغي لمسلم حريص على دينه.
ما شأن المسلم باقتناء صورة لممثل أو ممثلة أو مغني أو مغنية ؟
هذا لا يقتنيه إلا أناس معينون، فارغون، يشغلهم هذا اللون من الصور.
ولكن إذا كان يقتني مجلة أو أكثر فيها صور خليعة للنساء، وهذا مما يستدعي الأسف، خاصة في هذا الزمن حيث جعلت صورة المرأة وسيلة للدعاية لأكبر السلع، وكأنما هي شبكة يصطادون بها العملاء، كأن يصوروا امرأة وهي في مظهر غير لائق تشرب نوعًا من المرطبات كأسلوب للدعاية والإعلان . . . . وهكذا . ..
والمجلات والصحف تنهج نفس الطريقة، فبدلاً من أن تجعل من صورة الشاب أو الشيخ مثلاً وسيلة للدعاية لسلعة من السلع، تأتي بصورة فتاة فاتنة أو أكثر من فتاة.
وعلى كل حال، إذا كان الأخ الذي يسأل، يقتني مجلة معينة، لما فيها من ثقافة نافعة، ولا يريد الصورة أو الصور التي فيها، وإنما تأتي هذه الصور عرضًا، فلا بأس، والأفضل أن يتخلص من الصور الخليعة الخارجة عن الأدب، وإن كان لا يستطيع ذلك، فليضعها في مكان غير مرموق، ولا يلفت النظر، وليتخلص منها بمجرد قراءتها . وبالنسبة لتعليق الصور، فهو غير جائز ؛ لأن الصورة في هذه الحالة توضع موضع التعظيم، وهذا مخالف شرعًا . . . لأن التعظيم لا ينبغي إلا لله رب العالمين . . ..


الدين والحرية
س: ما موقف الإسلام من الحرية ؟ فإن بعض الشباب يعتقدون أن الدين ضد الحرية، وما هي الحرية التي جاء بها الإسلام ؟ وما حدودها ؟
جـ: جاء الإسلام فقرر مبدأ الحرية، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلمته المشهورة في ذلك: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا . وقال علي بن أبي طالب في وصية له: لا تكن غيرك وقد خلقك الله حرًا. فالأصل في الناس أنهم أحرار بحكم خلق الله، وبطبيعة ولادتهم هم أحرار، لهم حق الحرية، وليسوا عبيدًا . . جاء الإسلام فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين: فكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، جاء فأقر الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر . . جاء الإسلام وهو دين فأقر الحرية الدينية، حرية الاعتقاد . فلم يبح أبدًا أن يكره الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان وأعلن في ذلك قول الله عز وجل: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) (يونس: 69) هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني جاء في سورة البقرة: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) (البقرة: 256) وسبب نزول هذه الآية يبين لنا إلى أي مدى وصل الإسلام في تقديس الحرية، وفي تكريم هذا المعنى، وتأكيد هذا المبدأ، فقد كان الأوس والخزرج في الجاهلية إذا امتنعت المرأة من الحمل فنذرت إذا ولدت ولدًا هودته، أي جعلته من يهود، وهكذا نشأ بين الأوس والخزرج هاتين القبيلتين العربيتين بعض أبناء يهود، فلما جاء الإسلام وأكرمهم الله بهذا الدين وأتم عليهم نعمته، أراد بعض الآباء أن يعيدوا أبنائهم إلى الإسلام دينهم، ودين الأمة في ذلك الحين، وأن يخرجوهم من اليهودية، ورغم الظروف التي دخلوا فيها اليهودية، ورغم الحرب التي بين المسلمين وبين اليهود، لم يبح الإسلام إكراه أحد على الخروج من دينه وعلى الدخول في دين آخر ولو كان هو الإسلام . فقال: (لا إكراه في الدين) في وقت كانت الدولة البيزنطية تقول: إما التنصر وإما القتل . وكان المصلحون الدينيون في فارس يتهمون بأشنع التهم، وهكذا . ..
لم يكن مبدأ الحرية قد جاء نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين . . جاء مبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرقى بالبشرية بتقرير هذا المبدأ، مبدأ حرية الاعتقاد، وحرية التدين . ولكن هذا المبدأ الذي أقره الإسلام مشروط ومقيد أيضًا بألا يصبح الدين ألعوبة في أيدي الناس . . كما قال اليهود (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) (آل عمران: 72) آمنوا الصبح وفي آخر النهار تولوا: لقد وجدنا دين محمد صفته كذا وكذا . . . فتركناه . أو آمنوا اليوم واكفروا غدًا . . أو بعد أسبوع . . شنعوا على هذا الدين الجديد . . أراد الله سبحانه ألا يكون هذا الدين ألعوبة، فمن دخل في الإسلام بعد اقتناع وبعد وعي وبصيرة فليلزمه وإلا تعرض لعقوبة الردة . فالحرية الأولى حرية التدين والاعتقاد.
أما الحرية الثانية فهي حرية التفكير . . والنظر . . فقد جاء الإسلام يدعو الناس إلى النظر في الكون، وإلى التفكير (إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا) (سبأ: 46)، (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (يونس: 101) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 46) حمل الإسلام حملة شعواء على الذين يتبعون الظنون والأوهام وقال: (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا) (النجم: 28) وعلى الذين يتبعون الهوى وعلى الذين يقلدون الآباء، أو يقلدون الكبراء والرؤساء، حمل أولئك الذين يقولون يوم القيامة: (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (الأحزاب: 67) وحمل على أولئك الذين يقولون: (إنا وجدنا آبائنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف: 22) وجعلهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً . . حمل على المقلدين والجامدين ودعا إلى حرية التفكير وإلى إعمال العقل وإعمال النظر، وصاح في الناس صيحته (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة: 111) واعتمد في إثبات العقيدة الإسلامية على الأدلة العقلية، ولهذا قال علماء الإسلام: " إن العقل، الصريح أساس النقل الصحيح " العقل أساس النقل . فقضية وجود الله قامت بإثبات العقل، وقضية نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ثبتت بإثبات العقل أولا، فالعقل هو الذي يقول: هذا رسول، قامت البينة على صدقه ودلت المعجزات على صحة نبوته، ويقول العقل: هذا كذاب وهذا دجال ليس معه بينة، وليس معه معجزة . فهذا هو احترام الإسلام للعقل، وللفكر.
ومن هنا ظهر في الإسلام نتيجة للحرية الفكرية، الحرية العلمية، وجدنا العلماء يختلفون، ويخطيء بعضهم بعضًا، ويرد بعضهم على بعض، ولا يجد أحد في ذلك حرجًا . نجد في الكتاب الواحد: المعتزلي والسني، والكشاف لإمام معتزلي وهو الزمخشري نجد أهل السنة ينتفعون به، ولا يرون حرجًا في ذلك . . كل ما يمكن أن يأتي رجل من أهل السنة وعلمائهم كابن المنير يعمل حاشية عليه باسم " الانتصاف من الكشاف " أو يأتي إمام . كالحافظ ابن حجر فيؤلف كتابه " الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف " . وهكذا فكان العلماء ينتفع بعضهم بكتب بعض، وبآراء بعض، ورأينا اختلاف الفقهاء وسعة صدورهم في الخلاف بين بعضهم وبعض، هذا كله يدل على حرية الفكر وعلى الحرية العلمية في داخل الأمة الإسلامية.
وحرية القول والنقد أيضًا أقرها الإسلام، بل جعل ما هو أكثر من الحرية إذ جعل القول والنقد - إذا تعلقت به مصلحة الأمة، ومصلحة الأخلاق والآداب العامة - أمرًا واجبًا . . أن تقول الحق، لا تخاف في الله لومة لائم، أن تأمر بالمعروف، أن تنهي عن المنكر، أن تدعو إلى الخير، أن تقول للمحسن: أحسنت وللمسيء: أسأت . هذا ينتقل من حق إلى واجب إذا لم يوجد غيرك يقوم به . أو إذا كان سكوتك يترتب عليه ضرر في الأمة، أو فساد عام، حين ذاك يجب أن تقول الحق، لا تخشى ما يصيبك " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور " هذا ما وصل إليه الإسلام . . ليس في الإسلام أن تكتم أنفاس الناس ولا أن يلجم الناس بلجام فلا يتكلموا إلا بإذن، ولا يؤمنوا إلا بتصريح، كما قال فرعون ل***ته: (آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟) يريد ألا يؤمن الناس إلا إذا أذن، وألا يتكلم الناس إلا بتصريح من السلطات العليا . . لا ..
جاء الإسلام فأباح للناس أن يفكروا . . بل أمرهم أن يفكروا، وأباح للناس أن يعتقدوا ما يرون أنه الحق، بل أوجب عليهم ألا يعتنقوا إلا ما يعتقدون أنه الحق وأوجب على صاحب العقيدة أن يحمي عقيدته ولو بقوة ال****، وأمر المسلمين أن يدافعوا عن حرية العقيدة حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، بحد السيف، وبحد ال**** تحمى الحرية، ويمنع الاضطهاد حتى لا تكون فتنة، أي لا يفتن أحد في عقيدته وفي دينه . وقال الله تعالى في أول آية نزلت في شرعية القتال والجهاد في الإسلام (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) قال فيها: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا) لولا أن قيض الله مثل المؤمنين المسلمين بسيوفهم يدافعون عن الحرية . . وعن الحريات العامة، ما استطاع أحد أن يعبد الله في الأرض، وما وجدت كنيسة، ولا بيعة ولا مسجد، ولا أي معبد يذكر فيه اسم الله كثيرًا، فهذا هو الإسلام، جاء بهذه الحريات . . جاء بالحرية ولكنها حرية الحقوق، وليست حرية الكفر والفسوق . ليست الحرية التي يزعمونها اليوم حرية شخصية، هكذا يسمونها . . أي أن تزني وأن تشرب الخمر، وأن ترتكب الموبقات كما تشاء، ثم بالنسبة للأمور الأخرى التي تتعلق بالمصلحة " لا حرية " لا تنقد، لا تقل ما تعتقد، لا تقل للمحسن أحسنت، لا تقل للأعرج: أنت أعرج، لا . . إنما لك الحرية الشخصية . . حرية إفساد نفسك، إفساد أخلاقك، إفساد ضميرك، إفساد عبادتك، إفساد أسرتك، لك الحرية في ذلك . . إذا كان هذا هو معنى الحرية، فالإسلام لا يقر هذه الحرية، لأنها حرية الفسوق لا حرية الحقوق، إنما الإسلام يقر الحرية حرية التفكير، حرية العلم، حرية الرأي والقول والنقد، حرية الاعتقاد، والتدين، هذه الحريات التي تقوم عليها الحياة، حرية التعاقد حرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، حرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار . . فهذه هي القاعدة العامة في الإسلام: " لا ضرر ولا ضرار " . فأي حرية ترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، أما أن تدعى الحرية ثم تدوس الناس، هذا لا يقول به أحد . لك حرية المرور في الطريق، ولكن على أن تلتزم آداب المرور، لا تصدم الناس، ولا تصدم السيارات، ولا تدس المشاة، ولا تخترق قوانين المرور، وهذا التقييد لحريتك، أن تقف والضوء أحمر، أو أن تمشي على الجانب الأيمن، أو غير ذلك، هذا التقييد من المصلحة العامة، وكل دين وكل نظام لابد أن يوجد فيه مثل هذه القيود، وهذا ما جاء به الإسلام، وهذا أفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية.


تمني الموت
س: ماذا تقول في امرأة تصلي، وتدعو ربها أن يعجل بموتها ؟
جـ: هذا ممنوع شرعًا، فالإنسان ليس من حقه أن يدعو ربه أن يعجل بموته، أو يتمنى الموت، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، وقال: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإما محسنًا فعسى أن يزداد، وإما مسيئًا فعسى أن يتوب " (رواه الشيخان وغيرهما عن أنس) . أي أن الإنسان لا ينبغي أن يستعجل الموت، ولا أن يتمناه ؛ لأنه أحد رجلين: إما أن يكون من المحسنين فطول عمره سيتيح له فرصة للزيادة من الإحسان . وإما أن يكون مسيئًا فعسى أن يهيّئ الله له فرصة للزيادة من الإحسان . وإما أن يكون مسيئًا فعسى أن يهيء له الله فرصة للتوبة . . يستعتب ويرجع إلى الله عز وجل، فلماذا يطلب الموت ؟ وفي حديث آخر " فإن كان ولا محالة، فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي " (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أنس) . يدع الأمر لله، لا يختار لنفسه، فإن كانت الحياة خيرًا له، فإن طول عمره خير يطلب ويرجى، وجاء في الحديث " خير الناس من طال عمره وحسن عمله " (رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكر بإسناد صحيح كما في التيسير). فلعل بقاءه في الحياة فيه منفعة له، ومنفعة للناس، وإن كان الموت خيرًا له، توفاه الله، لأنه قد يكون، إذا طال به الأجل ارتكب شيئًا لا تحمد عاقبته، فيترك الأمر إلى علم الله وإلى إذن الله وإلى مشيئته.
هذا هو أدب المؤمن مع الله.
أما أنه بمجرد إصابته ببلاء في الدنيا، كأن توفيت له زوجة أو بنت، أو ولد أو نزل به مرض، يتمنى معه فراق الحياة، وتصبح حياته كلها جحيمًا، فهو الذي يجعل من حياته جحيمًا . . لأن الإنسان بإمكانه أن يجعل حياته طيبة سعيدة بالرضا وباليقين، كما روي في بعض الأحاديث " إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجل الغم والحزن في السخط والشك ".
الفرح والروح في الرضا واليقين . . فيرضى الإنسان بما عند الله عز وجل، يرضى بقضاء الله وقدره، ويوقن بالجزاء عند الله . . . وهو راض بيومه، موقن بغده . . هذا الرضا وهذا اليقين يعطيه الفرح والروح والأمن النفسي، والطمأنينة الروحية هذه التي قال فيها بعض السلف " إننا نعيش في سعادة لو علم بها الملوك جالدونا عليها بالسيوف": فهي ليست سعادة القناطير المقنطرة، ولا سعادة القصور المشيدة، ولكنها سعادة النفس.


البكاء على الميت
س: بنتي ماتت، وأنا أبكي كثيرًا عليها، ويقول لي بعض الناس: إن البكاء مخل بالدين فما قول الشرع في ذلك ؟
أم مسلمة
جـ: البكاء نوعان :
بكاء رحمة - من شدة العاطفة، ومن الحنان، وهذا لا يخلو منه أحد، إلا من قسا قلبه . النبي - عليه الصلاة والسلام - بكى حينما ماتت بنت بنته . . فدهش بعض الصحابة فسألوه في ذلك: أتبكي يا رسول الله وقد نهيت عن البكاء ؟ قال: هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء . . . يعني أن قلبه ليس مقدودًا من صخر . لا، إنه قلب إنسان . . وقلب الإنسان يتأثر فحينما يرى الإنسان طفلة أمامه تحتضر وتلفظ الأنفاس الأخيرة، ألا يبكي ؟ بلى ؟ ؟ إنه يبكي ما دام ذا قلب وهذا لا حرج فيه.
وعندما مات ابنه إبراهيم قال - عليه الصلاة والسلام -: " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا " . المهم أن الإنسان، لا يقول مع البكاء، إلا ما يرضى الله " إنا لله وإنا إليه راجعون "، " إن لله ما أخذ ولله ما أعطى "، " اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرًا منها " مثل هذا الكلام الطيب الذي يصبح له ثقل في الميزان يوم القيامة . أما أن يلطم الخد، ويشق الجيب ويدعو بدعوى الجاهلية، أو يولول، أو يعول، فهذه الأشياء هي الممنوعة وهي المحظورة وهي التي برئ منها النبي - صلى الله عليه وسلم - . فمجرد البكاء، لا شيء فيه، لأن بعض الناس دمعتهم قريبة، يبكي لأدنى الأشياء، فلعل هذه الأخت السائلة عاطفية، حساسة، فتبكي كلما تذكرت، فلا حرج عليها . لكن ينبغي أن تقول كلما تذكرت " إنا لله وإنا إليه راجعون " فعسى أن تكون هذه البنت في ميزانها يوم القيامة، وحجابًا لها من النار إن شاء الله . ولكن لتحذر أن تغلط بكلام يسيء الأدب في حق الله عز وجل، عليها أن ترضى بقضاء الله عز وجل، وإن ذرفت عينها الدمع في بعض الأحيان.


الاشتراك في الجمعيات الماسونية
س: نحب أن نستوضح رأيكم في موضوع اختلفنا عليه ما بين مؤيد ومعارض، وذلك هو موضوع " الماسونية " . فمن قائل: إنها دعوة استعمارية يهودية صهيونية، ومن قائل: إنها دعوة إنسانية، تدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة.
فهل عندكم ما يلقي الضوء على خبايا هذه الفكرة أو الجمعية ؟ . وهل هناك حرج شرعًا من الانضمام إليها، والانتظام في عقد أنصارها وأعضائها ؟
م . ع .، أ . س . ل - عمان
جـ: لا أجدني مضطرًا إلى أن أكشف عن خبايا هذه الفكرة أو الجمعية، وحقيقة نواياها، وما تنطوي عليه من أسرار، وبحسبي أن أضع أمام الأخوين السائلين هذه الحقائق التي لا ريب فيها، ولا خلاف عليها:
أولاً: المسلم إنسان واضح، لا يستخفي في السراديب كاللصوص، ولا يهوى الظلام كالخفافيش، وإنما يحب النور، ويعيش في نور . فهو كما وصفه القرآن (على نور من ربه) (سورة الزمر: 22) فهو لهذا لا يقبل دعوة بغير بينة ولا بصيرة ولا برهان، لأنه يقدر ذاته، ويحترم عقله الذي وهبه الله . ومن هنا خاطب الله رسوله بقوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (سورة يوسف: 108).
فلا ينبغي إذن لمسلم أن ينتظم في دعوة ليس على بينة من مقاصدها وأهدافها، فربما كانت هذه المقاصد منافية لدينه، أو محظورة في شريعته، كتقديم أعضاء الجمعية على غيرهم، وإن لم يكونوا أهلا، ونحو ذلك.
ثانيًا: ليس هناك أدنى حاجة للمسلم إلى الانضمام لجمعية يلابسها الغموض من كل جانب، وتحيط بها الريب والشبهات من هنا وهناك . وقد وضع رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أمام كل مسلم قاعدة للسلوك المأمون حين قال: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ".
وما دام في استطاعة المسلم أن يدع الأمر المختلف فيه إلى أمر متفق عليه، وأن يذر المشكوك فيه إلى المتيقن، بدون حرج في دينه، أو تضييق عليه في دنياه، فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك.
ثالثًا: إن كانت هذه الجمعية تدعو إلى مبادئ الإنسانية، والأخوة العالمية، كما يقال، فلسنا - نحن المسلمين - في حاجة إلى جمعية أجنبية الأصول والمنابع، تدعونا إلى الإخاء والمساواة والحرية . أو تعلمنا المحبة والتسامح . فنحن أساتذة الدنيا في هذه المعاني ونحن دعاتها ومعلموها للناس.
وإن كانت تدعو إلى شيء آخر تكنه صدور زعمائها ومؤسسيها، ولا يطلع عليه إلا خاصة الخاصة، فلسنا نقبل أن نقاد كما تقاد الأنعام، لا تدري أهي ذاهبة إلى المرعى أم إلى القصاب.
والخلاصة: إن كان في هذه الفكرة ما في الإسلام، فقد أغنانا الله بالإسلام، وإن كان فيها ما يخالف الإسلام، فلا نرضى أن نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب.
رابعا: إن هذه الجمعية غريبة عنا، دخيلة علينا، لم تنبت في أرضنا، ولم تنشئها أيدينا، ولم تصنعها أفكارنا، فقد أنشأها قوم غير قومنا، في دار غير دارنا، أعني أننا - نحن العرب والمسلمين - لم ننشئها، بل أنشأها قوم آخرون من اليهود أو النصارى في بلاد الغرب، لأهدافهم ومآربهم الخاصة بهم.
وقد عرفنا من كتاب ربنا، وأيده منطق التاريخ والواقع، أن هؤلاء القوم يجهدون كل الجهد لتحويلنا عن طبيعتنا وقبلتنا وعقيدتنا " (انظر في ذلك: " بروتوكولات حكماء صهيون " و" الغارة على العالم الإسلامي " و" التبشير والاستعمار في البلاد العربية والإسلامية " وغيرها) .ولن يرضوا بغير هذا بديلا، وصدق الله العظيم: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل: إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير). (سورة البقرة: 120).
خامسًا: كل من يدخل هذه الجمعية يلتزم بالسمع والطاعة لأوامرها، مهما تكن طبيعتها، وتنفيذ قراراتها بدون قيد ولا شرط . ومعنى هذا: أن أوامرها فوق أوامر الله جل شأنه وأن قراراتها فوق كل سلطة حتى سلطة الشرع نفسه.
ومن المعلوم من الإسلام بيقين أن مثل هذا الالتزام المطلق أو الأعمى لا يجوز لمسلم ؛ لأنه ضرب من الشرك والتعبد لغير الله . فالذي له الطاعة المطلقة والخضوع المطلق هو الخالق جل وعلا أما من عدا ذلك فطاعته مقيدة بالمعروف، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
حتى الإمام المسئول أو الدولة ذات السلطة الشرعية، التي يجب لها الطاعة والولاء لا يجوز الالتزام بطاعتها في المعصية، كما في الحديث الصحيح: " فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
وإذن يكون مجرد الالتزام بالطاعة المطلقة لقادة هذه الجمعية السريين حرامًا بينًا، سواء أمروه بمعصية بالفعل أم لا.
سادسًا: إن هذه الجمعية تقوم على أساس " علماني " . وهذا ما لا ينكره دعاتها . ومعنى " العلمانية ": أنهم يؤمنون بعزل الدين عن الدولة، أو فصل الدولة عن الدين . بحيث يكون التشريع لممثلي الشعب وليس لله، وهذه الفكرة قد تقبل في " المسيحية " التي ليس فيها تشريع محدد ملزم، والذي أجاز فيها المسيح لأتباعه أن يدعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
أما الإسلام فلا يجيز لأحد أن يدعي حق التشريع لنفسه، فيحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله . وإنما يجيز للناس أن يجتهدوا لأنفسهم في ضوء ما شرع الله تعالى . أما الحكم بغير ما أنزل الله فهو ظلم أو كفر أو فسوق، بنص القرآن.
سابعًا: تعمل هذه الجمعية على تحطيم الرابطة الدينية أو - على الأقل - توهين عراها، وتحطيم قواها . فإذا كان الإسلام يشيد بأخوة المسلم للمسلم، ويجعلها من الإيمان (إنما المؤمنون أخوة) (سورة الحجرات: 10). ويجعل رابطة العقيدة فوق رابطة الدم والنسب إذا تعارضتا كما في قوله تعالى: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (سورة المجادلة: 22). فإن هذه الجمعية تجعل رابطتها فوق الأديان والقوميات وكل ما يربط الناس بعضهم ببعض.
وبهذه النقاط كلها يتضح لنا أن أي مسلم يعتز بدينه، ويحترم نفسه، ويحرص على إرضاء ربه، لا يجوز له بحال أن يتورط في دخول هذه المتاهات التي إن عرف أولها فلن يعرف آخرها.
أما خبايا هذه الدعوة فقد كتب فيها كتب شتى . لعل من أهمها ما كتبه الجنرال التركي " رفعت أتلخان " وقد نقل إلى العربية من مؤلفاته: كتاب " أسرار الماسونية " وفيه - بالوثائق والأرقام من مصادرهم اليقينية - ما يكفي ويشفي، والله أعلم.


التعامل مع الأعداء
س: أود أن تتفضلوا بالإفادة عن حكم الشريعة الإسلامية في الشخص المسلم الذي يتعامل مع أعداء دينه ووطنه معاملات تجارية أو اقتصادية أو غيرها تعود بالنفع على العدو، سواء كان ذلك في وقت السلم أو في وقت الحرب.
جـ: لا شك أن المسلم مأمور بمجاهدة أعداء دينه ووطنه، بكل ما يستطيع من ألوان الجهاد، الجهاد باليد، والجهاد باللسان، والجهاد بالقلب، والجهاد بالمقاطعة . . كل ما يضعف العدو ويخضد شوكته يجب على المسلم أن يفعله، كل إنسان بقدر استطاعته، وفي حدود إمكانياته، ولا يجوز لمسلم بحال أن يكون رداءًا أو عونًا لعدو دينه وعدو بلاده، سواء كان هذا العدو يهوديًا أم وثنيًا . . أو غير ذلك فالمسلم يقف ضد أعدائه الذين يريدون أن ينتقصوا حقوقه وينتهكوا حرماته بكل ما يستطيع، وكل من والى أعداء الله وأعداء الدين وأعداء الوطن فهو منهم، كما قال الله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51) أي من كان مواليًا لهم بقلبه أو بلسانه أو بمعاملته أو بماله، أو بأي طريقة من الطرق أو أسلوب من الأساليب فهو منهم . . يصبح في زمرتهم . . وهذا ما حذّر القرآن منه في أكثر من سورة، وفي أكثر من آية، جعل الذين يتولون الكفار جزءًا منهم وبعضًا منهم . . (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) (الأنفال: 73 )، فالمسلم لا يوالي الكافر، والبر لا يوالي الفاجر، فإذا والاه كان دليلاً على نقص إيمانه أو على زوال إسلامه والعياذ بالله، فهو نوع من الردة، ولون من المروق عن الإسلام، المفروض أن المسلم إذا لم يستطع أن يجاهد أعداءه بالسيف، فعلى الأقل يجاهدهم بالمقاطعة، لا يتسبب في أن ينفعهم اقتصاديًا أو ماديًا أو تجاريًا، لأن كل دينار أو كل ريال أو كل قرش أو كل روبية تذهب إلى العدو، معناه: أنك أعطيتهم رصاصة أو ثمن رصاصة تتحول بعد ذلك إلى صدر مسلم وإلى قلب مسلم ومن هنا كان اليهود حينما يجمعون تبرعات في أمريكا وفي غيرها كان شعارهم لافتة معروفة: ادفع دينارًا تقتل عربيًا . فالمال هو الذي سيشتري ال**** الذي يقتل . . . وهكذا . . أنت إذا عاونت مشركًا أو كافرًا أو فاجرًا يحارب المسلمين، فأنت بذلك تقتل نفسًا مسلمة، وهذه كبيرة من الكبائر العظمى (ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا) (المائدة: 32). (ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا). (النساء: 93).
فالمفروض في المسلم ألا يكون مع أعدائه أبدًا، مهما أظهروا من حسن النوايا فهذا كذب - يقول الله تعالى: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) (الجاثية: 19)، (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51) ويقول: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (المائدة: 82)، فلابد أن نعرف هذا جيدًا، وأن يكون كل مسلم مع أمته الإسلامية، ومع دينه . . . . وهذا أقل شيء . . وهو أمر فطري في الأمم . . فالإنسان إذا حارب سواه، لا يحاربه بال**** فقط، بل بأكثر من ذلك . . . بالمقاطعة . . المشركون حينما أرادوا في مكة أن يحاربوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، أول ما حاربوه، لم يكن حرب ال****، وإنما كانت حربًا اقتصادية بالمقاطعة . . قاطعوه وأصحابه، وأهله، ممن انتصروا، من بني المطلب وبني هاشم . . . حاصروهم، وقاطعوهم ولم يبيعوا لهم ولم يشتروا منهم، ولم يزوجوهم، ولم يتزوجوا منهم، وذلك معناه: الحرب الاقتصادي معناه الإعداد . . فهكذا . . وهؤلاء مشركون . . فالمسلمون أولى بأن يعرفوا ذلك وأن يقاطعوا كل عدو لله، وكل عدو للمسلمين، وكل من خرج على ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.


قتيل المعركة وتكفير الذنوب
س: ما الحكم في شاب مسلم، ذهب ليقاتل مع المقاتلين في الأرض المقدسة، فكتب الله له أن يقتل في أرض المعركة، هل يعد شهيدًا ؟ وهل يغفر له ذنوبه التي ارتكبها من قبل كالتقصير في بعض الفرائض، أو اقتراف بعض المحرمات ؟
م . ح. - من الدوحة
جـ: كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولم يعرف بردة عن الإسلام (من استهزاء بعقيدة، أو إنكار فريضة، أو استحلال محرم مقطوع به، أو استخفاف بشريعة مجمع عليها) - إذا قتل في المعركة بين المسلمين واليهود الكفار - شهيد من شهداء المسلمين، تجري عليه كل أحكام الشهداء، فلا يغسل ولا يكفن، ويدفن في ثيابه التي قتل فيها، لتظل آثار الدماء والجراح شاهدة له يوم القيامة.
أما هل يعد قتاله وقتله في سبيل الله أم لا ؟ فهذا أمر مرجعه إلى النيات والبواعث والمقاصد التي هي أساس تقويم الأعمال كلها في الإسلام، (إن الله لا ينظر إلى صوركم . ولكن ينظر إلى قلوبكم) . " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ".
والجهاد في الإسلام ليس عملاً دنيويًا، وإنما هو قربة وعبادة من أعظم ما يقرب إلى الله عز وجل لهذا اشترط فيه إخلاص النية لله، وتصفية القلب من كل باعث دنيوي كحب الشهرة أو التظاهر بالشجاعة، أو العصبية لقوم أو عشيرة ونحوها . وفي هذا ورد حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما: " أن أعرابيًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " . " وكلمة الله ": هي الدعوة إلى الإسلام.
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو . قال: " يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرًا محتسبًا، بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، يا عبد الله بن عمرو على أي حال إن قاتلت أو قتلت - بعثك الله على تلك الحال ".
وأما الذنوب التي ارتكبها الشهيد من قبل فهي قسمان:
1 - ذنوب تتعلق بحقوق مالية، كغصب أو سرقة أو ديون وودائع ونحوها، فهذه لا تكفرها الشهادة، لأنها من حقوق أفراد العباد.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ".
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف قلت ؟ " قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين، فإن جبرائيل قال لي ذلك " . رواه مسلم وغيره.
2 - وأما الذنوب التي بين العبد وربه كشرب الخمر وترك الصلاة والصيام ونحوها من غير جحود ولا استخفاف فالنصوص ناطقة بأن الله تعالى يغفرها للشهيد، ويطهره من آثارها بفضله ورحمته . فقد جاء في أكثر من حديث: أن الشهيد يغفر له في أول دفقة من دمه، بل جاء في أكثر من حديث: أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
فكل ذنب لم يصل إلى درجة الردة أو النفاق - والعياذ بالله - يدخل في دائرة المغفرة التي أكرم الله بها الشهداء.
ولعل أبلغ ما يوضح ذلك هذا الحديث النبوي الشريف: روى الدارمي عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القتلى ثلاثة: مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل " . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " فذلك الشهيد الممتحن " (أي الذي امتحن الله قلبه للتقوى، وشرح صدره) في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة.
ومؤمن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، جاهد بنفسه ماله في سبيل الله، إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: ممصمصة (أي ممحصة مطهرة مكفرة) محت ذنوبه وخطاياه - إن السيف محاء للخطايا - وأدخل من أي أبواب الجنة شاء.
ومنافق جاهد بنفسه وماله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل . فذلك في النار . إن السيف لا يمحو النفاق. (رواه الدارمي بهذا اللفظ في " مشكاة المصابيح " وقال المحدث الشيخ الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة: إسناده صحيح . ورواه بنحو هذا الإمام أحمد بإسناد جيد، والطبراني وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في " الترغيب والترهيب " للمنذري في كتاب الجهاد).
وفي رواية لابن حبان في صحيحه في وصف الصنف الثاني: " ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله . . . إلخ ".
ومعنى فرق: أي خائف وجزع.
وليس بعد بيان النبوة بيان . إن السيف محاء للخطايا ومطهرة من دنس الذنوب سواء كانت ترك بعض الواجبات أم فعل بعض المحظورات، ولا حجر على رحمة الله تعالى: إن السيف يمحو الخطايا، ولا يمحو النفاق أبدًا . ولا يطهر من رجس الردة والإلحاد.
فالذين يحملون أسماء المسلمين، ويعيشون بين ظهرانيهم ولكنهم يضمرون بل يظهرون أحيانًا - التنقص للإسلام والاستخفاف بأحكامه، والمحادة لدعاته لا يطهر خبثهم شيء، ولو قُتلوا بأيدي اليهود الفجار.


موقف المسلم عند الشدائد والأزمات
س: أنا طالب، عشت سنوات قليلة مع أهلي في غاية السعادة، ثم توفى أبي، وبعد أن انتهت أمي من العدة تزوجت رجلاً آخر، عشت سنتين مع أمي وزوجها، ثم طردني عمي من البيت، وخرجت بلا أب ولا أم ترحمني ولا أعرف أهلاً لي . . فهل أنتحر ؟ أم أصبر ؟ أم ماذا ؟
أنا الآن في المرحلة الثانوية، وفي القسم الداخلي.
جـ: أما أنت يا بني فليس لك إلا الصبر الذي أمرنا الله أن نستعين به وبالصلاة على شدائد الحياة (يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين) الصبر مفتاح الفرج، إن شاء الله.
والمفروض في المسلم أن يواجه الحياة برباطة جأش، وبنفس قوية، وإرادة حديدية، وأن يكون أقوى من الأحداث، بتوكله على الله، واستمساكه بعراه، واعتصامه بحبله . أن يكون واثقًا من الله عز وجل، وأن الغد سيكون له، وأن بعد الليل فجرًا، وأن مع العسر يسرًا، فدوام الحال من المحال، كثير من الناس الذين نسمع عنهم في التاريخ، إنما تربوا في مدرسة الألم والحرمان، إن الله سبحانه أراد لأنبيائه أن يتألموا من صغرهم، لم نر نبيًا ولد منعمًا مرفهًا في فمه ملعقة من ذهب كما يقولون.
الأنبياء . . . أكثرهم وُلد في مهد الألم وفي أحضان العذاب . سيدنا موسى عليه السلام منذ لحظة ولادته يرمى في البحر، حيث أوحى الله إلى أمه أن ألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني . ثم يلتقطه عدو لله وله، فرعون، الذي كان يقتل الذكور من بني إسرائيل حتى يتخلص من موسى، وتحدث المعجزة الإلهية، فيتربى موسى في بيت فرعون، وينشأ وينمو في حجره.
سيدنا يوسف عليه السلام نقرأ في القرآن الكريم قصته، ونعرف كيف تجرع العذاب منذ نعومة أظافره . . حسده إخوته، ثم أرادوا أن يقتلوه ليتخلصوا منه واقترحوا أن يلقوه في الجب، وألقي فعلاً، ثم استخرج منه، وأخذ إلى سوق الرقيق حيث بيع كما تباع الشياه، ثم استخدم في البيوت كما يخدم العبيد، ثم اتهم بالفاحشة كما يتهم الفسقة، ثم ألقي في السجن بضع سنين، كما يلقى المجرمون.
وبعد هذا، ماذا كان ؟
بعد هذا الابتلاء مكنه الله في الأرض، وصار عزيز مصر، وصارت له الكلمة النافذة في يده المالية والتموين وأمور الاقتصاد كلها، في تلك الظروف القاسية والمجاعة الرهيبة التي عمت بلاد الشرق يومئذ.
كل هذا بفضل الصبر، كما قال الله في قصة يوسف :
(إنه من يتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
التقوى والصبر هما مفتاح النصر، وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
أما الانتحار، فليس فكرة تراود مسلمًا.
للأسف أن كثيرًا من القصص والروايات والمسرحيات التي تكتب للمسلمين معظمها تنتهي بالانتحار . . كأنه ليس هناك ما يتخلص به الإنسان ويلوذ بكنفه من الحياة الكئيبة أو من مآزق هذه الدنيا إلا أن ينتحر.
لا . . إن روح الإنسان ليست ملكه . . إنما هي ملك الله عز وجل.
فليس له أبدًا أن يفرط في هذه الأمانة، وهذه الوديعة، وأن يفارق الحياة بالانتحار.
الانتحار كبيرة من أعظم الكبائر . . تكاد تقارب الكفر - والعياذ بالله - لما تحمل وراءها من معنى اليأس من رحمة الله والله تعالى يقول:
(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). (يوسف: 87).
أوصى هذا الطالب أن يصبر وأن يثبت بعزيمة قوية، وإرادة فولاذية، بإيمان صلب، يستهين بالمعوقات، ولا يبالي بما في الحياة من لأواء، ومن عذاب ..
وعسى الله تعالى أن يطلع له الفجر، فإن الفجر لا يأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل ظلامًا، وهو آت إن شاء الله، ولا ريب فيه . . وليستقبل الحياة بصبر جميل والله يوفقه ويسدد خطاه، وعسى أن يكون في المجتمع من يسمع هذا فيرعى شأنه، فإن من أعظم الأعمال مواساة اليتيم والإحسان إليه، وخير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه.


اليهود ودم المسيح
س: أصدر مجمع الكرادلة الكاثوليك في مقر البابوية في الفاتيكان قرارًا يتضمن تبرئة اليهود من دم المسيح وصلبه، وقامت ضجة في العالم العربي والإسلامي حول هذا القرار لما له من مغزى سياسي، فهل يعد هذا القرار مخالفًا لوجهة النظر الإسلامية التي لا تعترف بصلب المسيح وتقول: إن الله رفعه إليه ؟ وهل يؤخذ اليهود المعاصرون بذنب أسلافهم ؟
جـ: يعتقد المسلمون أن المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، كما هو صريح القرآن الكريم، ولكن هذا لا ينفي مسئولية اليهود التاريخية في محاولة القتل والترتيب له والمعاونة عليه، فهم إن لم يقتلوا المسيح بالفعل، فقد قتلوه بالنية والاعتقاد والاعتراف وهذا ما سجله القرآن الكريم عليهم ضمن سلسلة جرائمهم المتواترة مع الأنبياء من عهد موسى منقذهم إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) (النساء: 155، 156، 157). ومعنى " شبه لهم " أنهم رأوا شبهه فظنوه إياه فقتلوه . فجريمة القتل التي يتحمل اليهود القسط الأكبر منها، إن لم تقع على المسيح نفسه فقد وقعت على من اعتقدوا هم أنه المسيح، والأعمال بالنيات، وحسبنا أنهم اعترفوا بذلك وتبجحوا به كما ذكر القرآن الكريم.
وإذا كان اليهود لم يقتلوا المسيح فعلا، فقد قتلوا من قبله نبي الله زكريا، وابنه السيد الحصور يحيى، وغيره من النبيين والصديقين، وقال القرآن مخاطبًا لهم: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون).
وقال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم . أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين).
وقال سبحانه في شأن بني إسرائيل: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). (البقرة: 61).
واليهود المعاصرون يتحملون نصيبًا من المسئولية مع أسلافهم في جرائم العصيان والاعتداء وقتل الأنبياء بغير حق، وذلك لأنهم راضون عن هذه الجرائم، وحامدون لأسلافهم عليها، فهم شركاؤهم فيها إلا إذا أعلنوا البراءة منها وسخطهم عليها وذمهم لمن اقترفها وهيهات . ومن أجل ذلك دمغ القرآن اليهود المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بجرائم آبائهم فقال تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (البقرة: 51)، (وإذ قلتم يا موسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون . وظللنا عليكم الغمام). (البقرة: 55، 56، 57).
ومن المعلوم أن اليهود المعاصرين للنبي لم يتخذوا العجل ولم يقولوا لموسى ما قالوا، ولكن رضاهم عن أسلافهم وتمجدهم بهم جعلهم شركاء لهم . ومثل ذلك قوله تعالى: (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين). (البقرة: 91).
إن اليهود المعاصرين مدفوعون بجرائم أسلافهم، وما أشبهها . ولكنهم أضافوا إليها على مر العصور جرائم وجرائم تنفطر من قسوتها القلوب، يكفينا أن نذكر منها ما اقترفوه في الأرض المقدسة من أعمال وحشية مع الشيوخ والنساء والصبيان.


الدين والصعود إلى القمر
س: يعلن الغربيون من أمريكان وروس وغيرهم أن في استطاعة الإنسان الوصول إلى القمر، عن طريق المركبات الفضائية، ولكن كثيرًا من المتدينين يكذبون هذا الادعاء، ويعتبرونه حديث خرافة، حتى إن بعضهم زعم أن هذا ينافي ما جاء به القرآن من أن الله جعل السماء سقفًا محفوظًا، وحفظها من كل شيطان مارد، فما رأيكم في ذلك ؟
جـ: أود أن أقول للأخ السائل: إن القرآن الكريم ليس فيه نص صريح يمنع من وصول الإنسان إلى القمر أو إلى غيره من الأجرام السماوية . كما أنه لا يشتمل على نص للوصول إلى تلك الأجرام، فليس هذا من رسالة الوحي المنزل من عند الله تعالى . كل ما فيه أن الله تعالى حفظ السماء من الشياطين كما قال سبحانه: (ولقد جعلنا في السماء بروجًا وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين). (الحجر: 16، 17، 18).
ومعنى حفظ السماء من الشيطان أنه لا ينالها ولا يدنسها، ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته، فالشيطان موكل بهذه الأرض، وبالغاوين من أبناء آدم فيها، أما السماء - وهي موضع الطهارة، ودار الملائكة، ورمز السمو والارتفاع، وقبلة دعاء المؤمنين - فالشيطان مطرود عنها مطارد، لا ينالها ولا يدنسها إلا محاولة منه ترد كلما أراد استراق ما يدور هناك من أحاديث بين الملائكة مما كلفهم الله به من أمور الكون . فهناك تقذف بالشهب الثاقبة التي تقف بالمرصاد لكل شيطان مارد (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظًا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى، ويقذفون من كل جانب . دحورًا، ولهم عذاب واصب . إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب). (الصافات: 6، 7، 8، 9، 10).
ولقد كان مردة الجن قبل البعثة المحمدية يمارسون عملية استراق السمع من الملأ الأعلى، وربما خطف بعضهم كلمة ونجا بها قبل أن يدركه الشهاب الثاقب، لينزل بها الشيطان إلى وليه من الكهنة والعرافين، فيزيد على الكلمة مائة كلمة.
حتى إذا كانت البعثة المحمدية، فوجئت الجن بأن السماء قد حصنت تحصينًا لا عهد لهم به، وملئت بحرس شديد لا ينفذ منه أحد، يرميهم بالشهب فتسقط عليهم وتفتك بهم فلم يعد هناك سبيل أي سبيل إلى استراق السمع الذي كانوا يحاولونه من قبل، على ما كان فيه من مخاطرة.
هذا ما اعترف به مؤمنو الجن أنفسهم، كما حكى عنهم كتاب الله إذ قالوا: (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا). (الجن: 9).
أما هذا الحرس ما هو ؟ وأين هو ؟ وكيف هو ؟ فلا نعرف عن ذلك شيئًا ؛ لأن المصدر الفذ لهذه المعرفة هو الوحي المعصوم من كتاب الله وسنة رسوله، فإذا لم يقولا لنا شيئًا عن ذلك، كففنا عن الخوض فيه، واكتفينا بما جاء به النص، ولو علم الله خيرًا لنا في الزيادة والتفصيل لزاد وفصل، وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث وإضاعة للجهد والوقت، وشغل للعقل البشري بما ليس في طاقته وليس من اختصاصه، وليس مما يفيد العلم به شيئًا في عمل الإنسان ورسالته في الحياة.
هذا ما جاء في القرآن عن حفظ السماء من مردة الجن والشياطين.
أما بنو الإنسان فلم يرد ما يمنع وصولهم إلى السماء ولا ما يفيد وصولهم إليها . فهذا من الشئون الدنيوية التي تركها الخالق للخلق، وتركها الوحي للعقل، لينظر فيها على ضوء مصلحته، وقد خاطب الله المكلفين بقول: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (يونس: 101). (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء). (الأعراف: 185).
وليس من الحكمة أن نجزم بمنع شيء لم يأت في الدين نص قطعي يمنعه، وربما استطاع العلم غدًا أن يحقق هذا الشيء الذي يحلم به علماء الفضاء . وهم الآن قد خطوا خطوات واسعة في هذا السبيل.
ولا ندري ماذا يتمخض عنه الغد وسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم.
(تنبيه): كانت هذه الفتوى قبل صعود الأمريكان إلى القمر بعدة سنوات.


التوبة في الكبائر
س: ما قولكم في شخص ما، سواء ارتكب شيئًا من الأمور التي سأذكرها أم ارتكبها جميعًا، وهي: فاحشة الزنا وما شابهها، رمي المحصنات وأكل أموال الناس بالباطل، مع الاعتبار بأن مرتكبها تاب إلى الله توبة نصوحًا، وأما فيما يتعلق بأكل الأموال بالباطل، فإنه لا يستطيع رد ما أخذه من الناس، لعدم توفره معه، سواء أكان قليلاً أم كثيرًا ؟
جـ: هذه الجرائم الثلاث التي يسأل عنها الأخ وهي: جريمة الزنا، أولا، فهذه يتوب إلى الله عنها، ويندم ويستغفر الله عز وجل، ويعزم عزما صادقًا على ألا يعود لمثل هذا الذنب أبدًا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
بعض العلماء شددوا وقالوا: لا بد أن يذهب إلى أهل المزني بها ويستسمحهم لأن هذا أمر يتعلق بحقوق العباد، فلا بد أن يسامح العباد في حقهم، ومعنى هذا أن يذهب الرجل إلى من يريد أن يستسمحه فيقول له: لقد زنيت بامرأتك أو بابنتك فاصفح عني وسامحني . . طبعًا، هذا شيء لا يعقل حدوثه، لأن ذلك الرجل سوف يقتله أو يفعل به الأفاعيل.
ولهذا حقق المحققون أن التوبة من الزنا تكون بين المرء وخالقه تعالى . فإذا تاب وأناب وندم واستغفر، فالمرجو أن يعفر الله له ويعفو عنه.
أما رمي المحصنات الغافلات العفيفات المؤمنات، فهذه جريمة كبيرة وهي من السبع الموبقات، المهلكات في الدنيا والآخرة . وقد قال الله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون). (النور: 22، 23).
وجعل الله على القذف عقوبة تعرف بحد القذف في الدنيا وهو ثمانون جلدة وهذه عقوبة مادية، ولا تقبل شهادة القاذف، بعد ذلك، وهذه عقوبة مدنية أدبية، حيث يسقط اعتباره وتنزع عنه الثقة فلا تقبل شهادته، وعقوبة دينية أخرى وهي قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون) (النور: 4) . أي أن يوصم القاذف بالفسق . . (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). (النور: 5).
ولكن بماذا تكون التوبة هنا ؟
اختلف الفقهاء والأئمة . ..
فهنا حق لله عز وجل، وحق للمرأة المقذوفة.
فإن كان قال فيها أمام ملأ، فلابد أن يكذب نفسه أمام هذا الملأ، حتى يرضي الله تعالى عنه . أو يذهب إلى صاحبة الحق ويستسمحها ..
أما أن يفضح عرضها، ويقول فيها كلامًا يسير مسير الريح في كل مكان، ويبقى وصمة عليها وعلى أسرتها، وعلى ذريتها، من بعدها، ثم يقول: تبت إلى الله . . فهذا لا يكفي . لابد من تكذيب نفسه، والاعتراف بأنه كذب عليها، أو استرضاء صاحبة الحق . . فصاحب الحق له أن يسمح . . وإلا قدم نفسه ليجلد الثمانين جلدة، ويتوب إلى الله بعد ذلك . . . فتقبل توبته.
أما أكل أموال الناس بالباطل، وبطرق غير مشروعة ..
أقول: بأن الحقوق المالية لابد أن ترد إلى أصحابها، حتى الشهادة في سبيل الله، لا تكفر هذا الحق للآدمي . . إنه ليس أعظم من أن يستشهد الإنسان في سبيل الله، ومع هذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله سائل: يا رسول الله، إذا قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ قال: نعم . ثم استدعاه وقال له: ماذا قلت آنفًا ؟ قال: قلت كذا . . قال: " إلا الدين . . أخبرني بذلك جبريل آنفًا ". (رواه مسلم).
الديون، والتبعات، لابد أن ترد إلى أصحابها.
فكونه يأكل أموال الناس عن طريق الرشوة أو الغصب، أو النهب، أو الغش أو أي طريقة من الطرق المحرمة، ثم يقول: تبت إلى الله . . . أو يحج، أو يجاهد ويستشهد . . . لا . . . لابد من رد هذه الحقوق المالية، حيث لا تسامح من هذه الناحية.
فإن كان عاجزًا، فليذهب إلى أصحاب الحقوق، ويسترضيهم لعلهم يرضون عنه، فإن لم يرضوا، فإنه لابد أن ينوي بنفسه أنه كلما قدر على شيء دفعه إلى أصحاب الحق.
فإذا مات، ولم يكمل ما عليه من هذه الحقوق، تولى الله إرضاء خصومه يوم القيامة، والله عفو غفور.


جواز نبش المقبرة القديمة لمصلحة
بعثت إدارة بلدية " دبي " بالإمارات العربية المتحدة هذه الرسالة إلينا: " وبعد، فإشارة إلى المكالمة الهاتفية التي تمت بين فضيلتكم وبيني يوم أمس والتي تحدثنا فيها عن المشكلة التي تعترضنا في دبي فيما يختص بمشروع المجاري العامة الذي يجري العمل فيه حاليًا في البلاد، وقد شرحت لفضيلتكم هذه المشكلة على ضوء تقرير المهندسين والفنيين الذين يشرفون على تنفيذ المشروع والذين أجمعت آراؤهم على ضرورة مرور الأنابيب من مقبرة دارسة قديمة، لم تستعمل منذ أكثر من عشر سنين بالإضافة إلى أن المنطقة التي قد تمر منها الأنابيب لا توجد بها مقابر تقل أعمارها عن خمس وعشرين سنة، وبعكس ذلك فإن مرور المجاري في مدخل المدينة يترتب عليه أضرار جسيمة تلحق الأذى بالمصالح العامة وتعرض حركة السير في المدينة إلى شلل كلي يعطل حركة العمل والتجارة بالمدينة، ويلحقها والبنايات المحاذية للحفريات بأخطار تهددها بالأذى.
وحيث أن حل هذه المشكلة يتوقف على ما يأمر به الدين الحنيف، فإننا نرجو التكرم بالتدارس مع الإخوة الأفاضل علماء الدين في قطر الشقيقة، وإعلامنا عن رأي شريعتنا الإسلامية السمحة في هذا الموضوع، للتمكن من السير على ضوئه في متابعة هذا المشروع.
أخوكم مدير بلدية دبي
جـ: السيد الفاضل مدير بلدية دبي المحترم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وبعد:
فردًا على كتابكم المؤرخ في 17 من ربيع الأول سنة 1390 هـ الموافق 22/5/1970 الخاص بموضوع المقبرة القديمة التي أجمعت تقارير الفنيين والمهندسين على ضرورة مد أنابيب المجاري منها.
وقد اطلعت على تقرير الفنيين الخاص بالمشروع، وعرفت منه الأضرار الكثيرة التي تترتب على مد الأنابيب من المدخل الرئيسي للبلد الذي هو البديل الوحيد للمقبرة.
وبعد دراسة الموضوع من الناحية الشرعية، حسبما جاء في كتب الشريعة ومن الناحية الواقعية حسبما جاء بالتقرير، أستطيع أن أقرر التالي وبالله التوفيق.
إن الأصل في نبش القبور، وإخراج الموتى منها، والانتفاع بالأرض عدم الجواز حفاظًا على كرامة الميت وحرمته . وهذا ثابت بالإجماع . إلا إذا وجد سبب شرعي يقتضي ذلك.
والأسباب الشرعية لذلك ترجع إلى أمور منها:
1 - مرور زمن طويل على المقبرة، بحيث يعرف منها: أن الميت رم وبلي، وصار ترابًا، ويعرف ذلك بالخبرة، فإن البلاد والأرض تختلف طبيعتها.
2 - إذا كان الميت يتأذى بوجوده في هذا القبر، كما إذا صار موضع القبر رديئًا لوجود مياه أو قذارة تنز عليه أو نحو ذلك.
3 - إذا تعلق حق لآدمي حي بالقبر أو بالميت نفسه . حتى أن الفقهاء جوزوا شق بطن الميت من أجل مال قليل بلعه عمدًا أو خطأ، ومنهم من جوز نبش القبر من أجل درهم أو من أجل بيع أرض القبر بالشفعة ونحو ذلك ". (انظر: المجموع للنووي جـ 5 . والدر المختار وحاشية ابن عابدين جـ 1 ص 839 . ص: 840 ط استانبول).
وعند الحنفية لا يجوز إخراج الميت بعد إهالة التراب عليه، إلا لحق آدمي، كما إذا سقط في القبر متاع أو كفن بثوب مغصوب، أو دفن معه مال، قالوا: ولو كان المال درهما، وكذلك إذا اشترى أرضًا فدفن فيها ميته ثم قام الشريك أو الجار ببيعها فتملكها بالشفعة، فهو مخير بين إخراج المدفون منها أو إبقائه فيها والتصرف في ظاهرها بالزرع أو البناء فوقها، قالوا لأن حقه في باطنها وظاهرها فإن شاء ترك حقه في باطنها، وإن شاء استوفاه ". (انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه جـ 1 ص 839، 840 ط. استانبول).
فإذا جاز مثل هذا التصرف من أجل حق آدمي فرد، فأولى أن يجوز لحق المجموع ومصلحتهم ودفع التضرر عنهم.
4 - أن تتعلق بالمقبرة مصلحة عامة ضرورية لجماعة المسلمين، لا يتم تحقيقها إلا بأخذ أرض المقبرة أو جزء منها، ونقل ما فيها من رفات.
وذلك أن القواعد الشرعية العامة: أن المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام . فإذا كان هذا يطبق على الحي، حتى أن الشرع ليجيز نزع ملكية أرضه وداره وإخراجه من مسكنه من أجل حفر نهر، أو إنشاء طريق، أو إقامة مسجد، أو توسيعه أو نحو ذلك . فأولى أن يطبق على الميت، الذي لو كان حيًا ما رضى أن نؤذي إخوانه من أجله.
وإذا عرفنا ذلك وجدنا أن هناك سببين يجيزان شرعًا الانتفاع بالمقبرة المذكورة بالشروط التي سنذكرها.
السبب الأول:
هو وجود مياه قذرة ترشح على المقبرة من جور الصرف التابعة للبنايات المجاورة مما نشر عليها الأوساخ والروائح الكريهة.
وقد ذكر العلامة ابن قدامة الحنبلي في " المغني ": أن الإمام أحمد سئل عن الميت يخرج من قبره إلى غيره . فأجاب بجواز ذلك إذا كان هناك شيء يؤذيه . أي مثل الماء ونحوه . وقال: قد حول طلحة، وحولت عائشة.
وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة، فلم ير بأسًا أن يحولوا وينقلوا إلى مكان آخر. (المغني: جـ2 ص: 425 ط. مطبعة الإمام).
وقال المارودي الشافعي في الأحكام السلطانية: إذا لحق القبر سيل أو نداوة . قال أبو عبد الله الزبيري يجوز نقله، ومنعه غيره . قال النووي: قول الزبيري أصح، فقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه دفن أباه يوم أحد مع رجل آخر في قبر . قال: " ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هينة في أذنه " وفي رواية للبخاري: " أخرجته فجعلته في قبر على حدة ".
قال النووي: وذكر ابن قتيبة في المعارف وغيره: أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة - رضي الله عنهم - دفن، فرأته ابنته عائشة بعد دفنه بثلاثين سنة في المنام، فشكا إليها النز، فأمرت به، فاستخرج طريًا، فدفن في داره بالبصرة. (فتاوى ابن تيمية: جـ 1 ص: 14).
والسبب الثاني:
هو مصلحة الجماعة في المدينة التي تتعرض لأضرار كثيرة عددها تقرير الفنيين في ثمانية، وقد جاءت الشريعة برفع الضرر، ودفعه ما أمكن واحتمال أخف الضررين لدفع أكبرهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاها، وهذا من أصول الشريعة التي لا خلاف عليها.
فإذا كان إبقاء المقبرة كما هي يضر بمجموع المسلمين الأحياء، ترجحت مصلحة الأحياء وجاز الانتفاع بالمقبرة، ونقل ما بقى فيها إلى مقبرة أخرى.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: أن معاوية في خلافته أراد أن يجري في المدينة المنورة العيون التي سميت " عيون حمزة " ولم يكن فيها من قبل عين جارية، فاقتضى ذلك نقل الشهداء من قبورهم، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب، لم ينتهو حتى أصابت المسحاة رجل أحدهم، فانبعث دمًا. (فتاوى ابن تيمية: جـ 1 ص: 14).
ولا شك أن معاوية فعل ذلك في المدينة، وفيها كثير من الصحابة . ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم، وهذا يعد إجماعًا.
وبناء على ذلك نرى أنه لا مانع شرعًا من الانتفاع بالمقبرة المذكورة بشروط:
أولاً: أن يقتصر على الجزء الذي لم يدفن فيه من خمس وعشرين سنة إلا إذا دعت الحاجة إلى استخدام الجزء الآخر، أو كانت مياه الصرف وصلت إلى كل أجزاء المقبرة، أو يخشى ذلك خشية مرجحة، فيحسن نقل كل رفاتها حينئذ.
ثانيًا: أن يحرص العاملون في الحفر على عدم كسر العظام، فقد روى أبو داود مرفوعًا: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ".
ثالثًا: أن تجمع العظام التي يعثر عليها، وتنقل - بكل احترام - إلى مكان آخر تدفن فيه، بمعرفة أهل الرأي والدين.
هذا ما اتضح لنا في هذا الأمر . والله ولي التوفيق.


حقيقة الصوفية
س: ما حقيقة الصوفية والتصوف ؟ وما موقف الإسلام منه ؟ نسمع أن من الصوفيين من خدم الإسلام بالعلم والعمل . ونسمع أن منهم من هدم الإسلام بالبدع والضلالات . فما الفرق بين هؤلاء وأولئك ؟
جـ: التصوف: اتجاه يوجد في كل الأديان تقريبًا . . اتجاه إلى التعمق في الجانب الروحاني، وزيادة الاهتمام به.
يوجد هذا في بعض الأديان أكثر منه في أديان أخرى.
في الهند . . هناك فقراء الهنود، يهتمون بالناحية الروحية اهتماما بالغًا، ويجنحون إلى تعذيب الجسد من أجل ترقية الروح وتصفيتها بزعمهم.
وكذلك في المسيحية . ولا سيما في نظام الرهبانية.
وفي فارس، كان هناك مذهب ماني.
وعند اليونان ظهر مذهب الرواقيين.
وفي بلاد أخرى كثيرة، ظهرت النزعات الروحية المتطرفة، على حساب الناحية الجسدية أو المادية.
والإسلام حينما جاء، جاء بالتوازن بين الحياة الروحية والحياة الجسدية والحياة العقلية.
فالإنسان - كما يتصوره الإسلام - جسم وعقل وروح . ولابد للمسلم أن يعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه.
وحينما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أصحابه من يغالي في ناحية من النواحي زجره، كما حدث لعبد الله بن عمرو بن العاص، فقد كان يصوم ولا يفطر، ويقوم فلا ينام، وترك امرأته وواجباته الزوجية . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا عبد الله إن لعينك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لبدنك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه ".
وحينما ذهب فريق من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون أزواجه عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال بعضهم لبعض " وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج . فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالتهم فجمعهم وخطب فيهم وقال: " أما إني أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
فمن هنا جاء الإسلام بالتوازن في الحياة، يعطي كل ناحية حقها، ولكن الصوفية ظهروا في وقت غلب على المسلمين فيه الجانب المادي والجانب العقلي.
الجانب المادي، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات، بعد اتساع الفتوحات، وكثرة الأموال، وازدهار الحياة الاقتصادية، مما أورثت غلوا في الجانب المادي . مصحوبًا بغلو آخر في الجانب العقلي، أصبح الإيمان عبارة عن " فلسفة " و" علم كلام " " وجدل "، لا يشبع للإنسان نهمًا روحيًا، حتى الفقه أصبح إنما يعني بظاهر الدين لا بباطنه، وبأعمال الجوارح . لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها.
ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدوا ذلك الفراغ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى كثير من الناس جوع روحي، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولية لأعمال القلوب وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جل تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم . حتى قال بعضهم: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف.
وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة، وقافين عند حدود الشرع، مطاردين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك.
ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر، أو متعصب عليهم.
غير أن كثيرًا منهم غلوا في هذا الجانب، وانحرفوا عن الطريق السوي، وعرفت عن بعضهم أفكار غير إسلامية، كقولهم بالحقيقة والشريعة، فمن نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم . وكان لهم كلام في أن الأذواق والمواجيد تعتبر مصدرًا من مصادر الحكم . . أي أن الإنسان يرجع في الحكم إلى ذوقه ووجدانه وقلبه . . وكان بعضهم يعيب على المحدّثين، لأنهم يقولون: حدثنا فلان قال وحدثنا فلان . . . ويقول الصوفي: حدثني قلبي عن ربي . ..
أو يقول: إنكم تأخذون علمكم ميتًا عن ميت، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت . . أي أنه متصل - بزعمه - بالسماء مباشرة.
فهذا النوع من الغلو، ومثله الغلو في الناحية التربوية غلوا يضعف شخصية المريد كقولهم: إن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله، ومن قال لشيخه: لم ؟ لا يفلح . ومن اعترض " انطرد ".
هذه الاتجاهات قتلت نفسيات كثير من أبناء المسلمين، فسرت فيهم روح جبرية سلبية كاعتقادهم القائل: أقام العباد فيما أراد . . . دع الملك للمالك، واترك الخلق للخالق ..
يعني بذلك أن يكون موقفه سلبيًا أمام الانحراف والفساد وأمام الظلم والاستبداد، وهذا أيضًا من الغلو والانحرافات التي ظهرت عند الصوفية.
ولكن كثيرًا من أهل السنة والسلف قوّم علوم الصوفية، بالكتاب، والسنة، كما نبه على ذلك المحققون منهم، ووجدنا رجلاً كابن القيم يزن علوم القوم بهذا الميزان الذي لا يختل ولا يجور، ميزان الكتاب والسنة . فكتب عن التصوف كتابًا قيمًا، هو كتاب: " مدارج السالكين إلى منازل السائرين " . ومدارج السالكين هذا عبارة عن شرح لرسالة صوفية صغيرة اسمها " منازل السائرين إلى مقامات: إياك نعبد وإياك نستعين " لشيخ الإسلام إسماعيل الهروي الحنبلي.
هذا الكتاب من ثلاثة مجلدات، يرجع فيه إلى الكتاب والسنة، ونستطيع أن نقرأه ونستفيد منه باطمئنان كبير ..
والحقيقة أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، والحكم هو النص المعصوم من كتاب الله ومن سنة رسوله.
فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة، كجانب الطاعة لله . وجانب محبة الناس بعضهم لبعض، ومعرفة عيوب النفس، ومداخل الشيطان، وعلاجها، واهتمامهم بما يرقق القلوب، ويذكر بالآخرة.
نستطيع أن نعرف عن هذا الكثير عن طريق بعض الصوفية كالإمام الغزالي مع الحذر من شطحاتهم، وانحرافاتهم، وغلوائهم، ووزن ذلك بالكتاب والسنة، وهذا لا يقدر عليه إلا أهل العلم وأهل المعرفة.
ولهذا أنصح الرجل العادي بأن يرجع في معارفه إلى المسلمين العلماء السلفيين المعتدلين الذين يرجعون في كل ما يقولون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والله الموفق.


التصوف بين مادحيه وقادحيه
س: كنا مجموعة متنوعة المشارب والثقافات، جلسنا نتدارس ونتناقش في بعض أمور الدين فانتهى بنا الحديث إلى موضوع اختلفنا في شأنه اختلافًا حادًا هذا الموضوع الذي اختلفنا في شأنه هو التصوف وكتبه وطرقه ورجاله، ومناهجه الفكرية والتربوية.
فمنا من رفضه رفضًا كليًا، واعتبره ضد الإسلام الصحيح، ومنا من قبله قبولاً مطلقًا، واعتبره الطريق الوحيد للوصول إلى الإسلام معرفة وتذوقًا وسلوكًا.
ولم نستطع أن نصل إلى رأي حاسم في الموضوع، لأن لكل منا خلفيته الثقافية التي تحدد مسار تفكيره.
لهذا نريد منكم بيانًا واضحًا وحاسمًا حول التصوف ونشأته واتجاهه ومميزاته وعيوبه، حتى يمكننا أن نحدد موقفنا منه على بينة، دون تعصب له أو عليه.
وفقكم الله ونفع بعلومكم المسلمين.
جـ: عرضنا لهذا الموضوع في فتوى سابقة، ولكن لا مانع من العودة إليه مرة أخرى لأهميته وضياع الحقيقة فيه بين المفرطين في المدح، والمفرطين في القدح، ولهذا يحتاج إلى مزيد بيان.
ولا بأس أن نلقي من الضوء ما يكشف بعض جوانب الموضوع وينير الطريق لمن أراد السلوك على بصيرة.
كان المسلمون في عصر الصحابة ومن تتلمذ على أيديهم يتعلمون ويعلمون الإسلام كله، في شموله وتوازنه وإيجابيته وعمقه، ولم يكونوا يبرزون جانبًا على حساب جانب آخر ولم يغفلوا ظاهرًا لباطن، ولا باطنًا لظاهر، بل اهتموا بالعقل والروح والجسم جميعًا، وعنوا بالفرد والمجتمع معا ورعوا مصالح الدنيا والآخرة، وكما يقول الفقهاء مصالح العباد في المعاش والمعاد . فلما تعقدت الحياة وتطورت - لعوامل كثيرة داخلية وخارجية وجد في المجتمع الإسلامي من قصر همه على الجانب العقلي كالمتكلمين، ومن جعل أكبر همه الجانب العملي الظاهري كالمشتغلين بالفقه، وبجوار هؤلاء وأولئك من شغله متاع الحياة الأدنى، وأغرقه ترف المعيشة المادي، كالأمراء والأغنياء ومن سار في ركابهم من طلاب الدنيا . في هذا الوقت ظهر المتصوفة ليعنوا بجانب هام أيضًا هو الجانب الروحي والنفسي في الحياة الإسلامية، ويملأوا الفراغ الذي لم يسده أهل الفقه ولا أهل الكلام، وليستنقذوا الناس من الاستغراق في متاع الدنيا وزخرفها.
كان علماء السلف يأخذون دين الله كله - كما قلنا - بمراتبه كلها من الإسلام والإيمان والإحسان التي جاءت في حديث جبريل المشهور . ثم صار أهل الفقه أخص بمعرفة الإسلام وأحكامه الظاهرة، وأهل الكلام أخص بالإيمان وما حوله من بحوث . . وجاء أهل التصوف ليقولوا: نحن أخص بمرتبة الإحسان.
كان التصوف في أوامره ينزع إلى تحقيق غاية عملية هي النجاة بالنفس من سخط الله وعذاب الآخرة، عن طريق الزهد والتقشف ومجاهدة النفس، وأخذها بأدب الشرع وتقوى الله، ثم ظهر من العلماء والمربين من جسد جانب الخوف والتخويف من الله كالحسن البصري، ثم برز إلى جانب الخوف والخشية - عنصر جديد هو الحب الإلهي، ظهر ذلك في شعر رابعة العدوية (ت 185 هـ) وفي أقوال أبي سليمان الداراني (ت 215 هـ) وذي النون المصري (ت 245 هـ) وأبي يزيد البسطامي وغيرهم، ممن صرحوا بأنهم لا يطيعون الله ويؤدون الواجبات خوفًا من عذاب النار ولا رغبة في نعيم الجنة، ولكن حبًا لله، وطلبًا لقربه.
واشتهر في هذا قول رابعة:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظًا جزيلاً
أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلاً
ثم تحول التصوف بعد ذلك من طريقة للتربية الخلقية والروحية إلى فلسفة تشتمل على مفاهيم غريبة عن الإسلام، وانحرافات عن تعاليمه الأصلية، لعل أبرزها هو القول بالحلول ووحدة الوجود، أجل انحرف التصوف انحرافًا شديدًا على يد الحلاج الذي غره الغرور فقال: أنا الله . على مذهب من يقول بحلول الخالق في المخلوق، كقول النصارى في المسيح . كان هذا الانحراف سببًا في غضبة الفقهاء والجماهير المسلمة عليه فقتل سنة 309 هـ وأكثر الصوفية أنفسهم يبرأون من نظرية الحلاج.
ثم زاد الانحراف والغلو في فلسفة " وحدة الوجود " التي تظهر في مؤلفات محيي الدين بن عربي (المتوفي سنة 638 هـ) وغيره، ممن زعموا أن لا موجود إلا الله ولا ثنائية في الوجود، فليس ثمت خالق ومخلوق، ورب ومربوب.
ونتيجة هذه الفلسفة هي نفي المسئولية - التي هي عماد الأخلاق - والتسوية بين الأخيار والأشرار، والموحدين والوثنيين، فالجميع مظهر لتجلي الحق . لهذا قال ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فدير لرهبان ومرعى لغزلان
وبيت لأوثان وكعبة سائف وألواح توراة ومصحف قرآن
فهو في الواقع مذهب هدام.
تعقيب على الاتجاه الصوفي:
ولا شك أن الناس قد اختلفوا في الصوفية بين متعصب لهم يبرز محاسنهم ويتبني وجهة نظرهم في كل شيء ويحامي عنهم ولو خطأ، بلى هو لا يتصور الحكم عليهم بالخطأ أبدًا . ومتعصب عليهم يذمهم جميعًا، ويذم ما انفردوا به ولو كان حقًا في نفسه، ويعلن أن التصوف مذهب دخيل على الإسلام، مأخوذ من المسيحية والبوذية والبرهمية وغيرها.
ولكن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إن التصوف له جذور إسلامية أصيلة لا تجحد، وفيه عناصر إسلامية أساسية لا تخفى . نرى ذلك في القرآن والسنة وسيرة الرسول الكريم وأصحابه الزاهدين مثل عمر وعلي وأبي الدرداء، وسلمان وأبي ذر وغيرهم . ومن يقرأ القرآن والحديث يجد فيهما تحذيرًا متكررًا من فتنة الحياة الدنيا ومتاعها وتوجيه الهمم إلى الله وإلى الدار الآخرة، وتحريك القلوب بالتشويق إلى الجنة وما فيها من رضوان الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، والتخويف من النار وما فيها سبحانه في مثل قوله (يحبهم ويحبونه)، (والذين آمنوا أشد حبًا لله)، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، (والله يحب المحسنين)، (والله يحب الصابرين)، (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا) إلخ.
كما جاء في القرآن والأحاديث نصوص غزيرة في الزهد والتوكل والتوبة والشكر والصبر واليقين والتقوى والمراقبة وغيرها من مقامات الدين، ولم يعطها العناية اللائقة بها - من التفسير والتعليل، والتقسيم والتفضيل - غير الصوفية . ولهذا كانوا أعلم طوائف الأمة بعيوب النفس، وأمراض القلوب ومداخل الشيطان، وأكثرهم عناية بأحوال السلوك وتربية السالكين، وكم تاب على أيديهم من عاص وكم أسلم من كافر ولكن التصوف لم يقف عند الدور الأول الذي كان يراد به الأخلاق الدينية ومعاني العبادة الخالصة لله . وكان قوامه الإرادة . كما قال ابن القيم، ولكنه انتقل من وصفه علم الأخلاق الإسلامي إلى نظرية في المعرفة تسعى إلى الكشف والفيض الإلهي عن طريق تصفية النفس . . ثم كان من الانحرافات ما كان.
ولهذا فإن من المكابرة إنكار المؤثرات الأجنبية في التصوف مما خرج به في كثير من الأحيان عن " وسطية " الإسلام واعتداله، إلى تشدد كتشدد الرهبانية، أو غلو كغلو البوذية . ومن مظاهر الانحراف عند الصوفية هذه الأفكار.
1 - اعتبار الذوق أو الوجدان الشخصي أو الإلهام - مقياسًا في معرفة الحسن والقبيح وتمييز الصواب من الخطأ، حتى غلا بعضهم في ذلك فقال: " حدثني قلبي عن ربي " في مقابلة ما يقوله علماء السنة: حدثنا فلان عن فلان . . . . عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2 - تفرقتهم بين الشريعة والحقيقة، وقولهم: من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم، فهذا يترتب عليه ألا يحارب كافر ولا ينكر على منكر.
3 - تحقيرهم لأمر هذه الحياة، على خلاف نهج القرآن (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) والسنة " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي " . نهج الصحابة من مثل قولتهم المأثورة " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا ".
4 - غلبة النزعة الجبرية والسلبية على أكثرهم، مما أثر في تفكير عامة المسلمين وجعلهم يعتقدون أن الإنسان مسير لا مخير، وأن لا فائدة من مقاومة الفساد ومحاربة الباطل، لأن الله أقام العباد فيما أراد " وشاع بينهم هذا القول: دع الملك للمالك، واترك الخلق للخالق " . وهذا أدّى إلى تغليب الروح الانهزامية أو الانسحابية في حياة جمهور المسلمين.
5 - إلغاء شخصية المريد في تربيتهم السلوكية والفكرية، بحيث يفنى في شيخه ولا يناقش فضلاً عن أن يعترض، أو يقول: " لم " فضلاً عن " لا " ومن كلماتهم: " المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل " و" من قال لشيخه: لم ؟ لا يفلح ".
وقد انتشرت هذه الأفكار في العصور المتأخرة، وتقبلها الكثيرون على أنها من صميم الإسلام . فلما بزغ فجر النهضة الحديثة في بلاد المسلمين ظن كثير من المثقفين أن هذه الأفكار السلبية السائدة هي الإسلام، فأعرضوا عنه - وربما عادوه - جهلاً منهم بحقيقة القيم الإسلامية الأصيلة.
على أن الحق يقتضينا أن نضيف هنا أن الصوفية الأولين المعتدلين حذروا من الشطط والانحراف، وأوجبوا التقيد بنصوص الشريعة وقواعدها التي لا تخطئ ولا تحيف.
ينقل ابن القيم عن شيوخ القوم أقوالاً عديدة لهم في ذلك، منها قول سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد (ت 297) مثل قول الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقال: " من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة ".
وقال أبو حفص: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال.
وقال أبو سليمان الدارني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
ولعل أعدل ما قيل عن الصوفية، هو جواب ابن تيمية حين سئل عنهم فكان من قوله: تنازع الناس في طريقهم: فطائفة ذمت " الصوفية والتصوف " وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة . ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.
وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
والصواب: أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أجل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين . وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج مثلا، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره . ا هـ . والله أعلم.

رد مع اقتباس










إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
إظهار / إخفاء الإعلانات 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:51 PM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. By : 4as7ab.com
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi
منتديات

منتج الاعلانات العشوائي بدعم من عرب للجميع